كما أشرت منذ بدأ تسليط الضوء على البرنامج النووي الإيراني، فإن إيران ماضية في برنامجها النووي وصولا إلى امتلاكها هذا السلاح بكل تجلياته واحتياجاته، لا يمنعها عن بلوغ هذا الهدف مانع.
هذه الحقيقة كانت واضحة ومؤكدة قبل الوصول الى الاتفاق النووي الأممي معها، اتفاق 5+1 عام 2015 بعد مفاوضات انطلقت في العام 2006، وكذلك بعد أن عطل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب هذا الاتفاق بإعلان انسحاب بلاده منه في الثامن من مايو 2018، وكل المفاوضات الجديدة الجارية لإعادة تفعيل هذا الاتفاق لا يمكن أن يمس بشكل فعلى هذا التوجه الإيراني، وكل قول يخالف هذه الحقيقة هو إما قول للمخادعة، أو مجرد تعبير عن رغبات وأماني.
إيران باتت دولة نووية، سواء أنتجت سلاحها النووي اليوم، أو بعد غد، فالتوقيت هنا ـ على أهميته ـ مجرد تفصيل لا أكثر، وهذه الحقيقة لا تجد تأكيدها فقط بنسب تخصيب اليورانيوم التي أعلنت أنها توصلت إليها، وإنما تجد نفسها في حقيقة أنها باتت تملك بنية نووية كاملة ومعقدة، من كادر نووي عالي المستوى العلمي والتقني لا يؤثر فيه كثيرا اغتيال بعض العلماء الذين يقودون هذا القطاع، ومن بنية تحتية متعددة ومنتشرة في جغرافية ايران المعقدة بحيث يستحيل تدميرها في أي هجوم خارجي، وفي توفر المواد الخام ذاتيا لهذا القطاع بحيث لا يمكن تعطيل أو حصار هذا المشروع من خلال السيطرة على المادة الخام، ثم إنها باتت تمتلك الذراع اللازم للسلاح النووي المتمثل بأداة وتقنية النقل وهو هنا “السلاح الصاروخي” القادر على الوصول إلى الأهداف المحددة.
إيران دولة نووية هذا أمر لا يصح الجدال فيه، وأنا على يقين أن كل الدول ذات الشأن تعرف ذلك بدقة ويقين، لكن أعلى الأصوات التي ترتفع محذرة من هذا الوضع هو صوت قادة الكيان الصهيوني، وإذا كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو قد اعتبر التصدي لإيران في محاولة لمنعها من امتلاك هذا السلاح واحدة من مهام حكوماته المتتالية منذ العام 2009، فإن حكومة الكيان الراهنة برئاسة نفتالي بينيت تقف الموقف نفسه، وقد حرص بينيت على حمل هذا الملف إلى واشنطن في زيارته الأولى للعاصمة الامريكي منذ تسلمه منصبه في يونيو، ليكون من أولى الملفات التي يبحثها في لقاء اليوم مع الرئيس الأمريكي جو بايدن .
ولا أظن أن الموضوع الرئيس الذي سيبحثه الجانبان يتصل بالعمل على منع إيران بالقوة من الوصول إلى امتلاك السلاح النووي، فقد أصبح هذا الأمر من ” أفعال الماضي”، الذي لا يدرك، وقد يتصل البحث بما هو ممكن من خطوات تؤخر امتلاك إيران لهذا السلاح، بالغواية أو بالأعمال “القذرة” القائمة على الاغتيالات والتخريب التقني، والتفجيرات التي ينفذها عملاء الداخل. لكن أي عمل خارج هذا الإطار يعتبر من أفعال الطيش والمغامرة التي لا تحتملها الولايات الأمريكية، وأرجح أن الكيان الصهيوني لا يحتملها أيضا.
هذه الصورة التي نطرحها هنا وبهذه الدرجة من اليقين والقطعية تطرح تساؤلات عدة، تساؤلات تستدعي إجابات واضحة وحاسمة أيضا.
والسؤال الأول: إذا كان من المؤكد أن الحصار الاقتصادي، والعمليات التخريبية التقنية والاغتيالات كلها محدودة الأثر، ولا يمكن لها أن توقف هذا البرنامج، فهل حقا لا يوجد سبيل لمنع إيران من الاستحواذ على السلاح النووي؟.
والجواب الواضح أيضا أن الطريق الوحيد لتحقيق هذا الهدف يتمثل في تدمير ايران وتفكيكها وتصفية بنيتها العلمية والتقنية والاجتماعية، وذلك من خلال الاحتلال المباشر لها، أي أن يفعلوا بإيران كما فعلوا بالعراق، وهذا سيناريو مستحيل، وجنوني، ونقول ذلك لأن أحدا من القوى القادرة ـ نظريا ـ على القيام بهذه المغامرة لا مصلحة لها بذلك، ولأن من شأن نتائج هذا السيناريو أن يزلزل الوضع في أوربا، وفي العالم، وكذلك لأن درجة العداء بين هذا النظام الإيراني وبين الغرب كله بداية بالولايات المتحدة والكيان الصهيوني لا تصل إلى هذا الحد من الجنون، إذ لا يتجاوز هذا العداء حدود تقليص دور الإيراني ليتوافق مع مصالح الدول الكبرى، ومع مصالح الكيان الصهيوني باعتبار هذا الكيان في بؤرة الاهتمام والسياسات الغربية.
وقد أثبت النظام الإيراني الحالي أنه أكثر فاعلية وقدرة على بث الفوضى والخلل في تركيبة دول المنطقة، وأن السياسات الطائفية التي يتبعها استنادا الى نظرية “ولاية الفقيه” فتحت الباب واسعا للعديد من النظم العربية لشرعنة ارتباط أوثق مع الغرب الاستعماري والكيان الصهيوني بدعوى توفير الحماية من الخطر الإيراني، أي أن وجود ” إيران الخطرة على الإقليم كله”، باتت أكثر فائدة من إيران الامبراطورية، التي نظر إليها زمن الشاه باعتبارها الشرطي ألأمريكي في المنطقة.
وبهذا فإن قضية عداء وصراع إيران مع الغرب ليست قضية مبدئية، وإنما قضية تتصل بحدود الدور والمكانة، وهذه لا تحتاج ولا تتحمل مغامرات جنونية غير مجدية.
السؤال الثاني، يخص المحيط العربي الإقليمي: هل تمثل إيران النووية خطراً حقيقياً على المحيط العربي، أو على الإقليم العربي المجاور لإيران؟.
الجواب على السؤال يكشف الحقيقي وغير الحقيقي في النظر إلى الخطر النووي الإيراني على النظام العربي.
والجواب يستلزم الكشف عن أهمية ودور السلاح النووي بالنسبة للدول التي تملكه.
إن التدقيق في طبيعة هذا السلاح وفي تاريخية وجوده يجعلنا نؤكد أن السلاح النووي الذي تم استخدامه من قبل الولايات المتحدة فقط مرتين كرة ضد مدينة هيروشيما وثانية ضد ناغازاكي ( 6 ، 8 / أغسطس 1945 ) في ختام الحرب العالمية الثانية، تحول لحظة امتلاك الاتحاد السوفياتي من سلاح هجومي إلى سلاح ردع دفاعي، أي أن خروجه من حالة احتكار دولة واحدة له حوله من أداة من أدوات الهجوم إلى وسيلة ردع ودفاع تحتفظ به الدولة لحمايتها من أي هجوم خارجي، والسبب في ذلك أن هذا السلاح مدمر إلى درجة يصبح الحديث عن الضربة الأولى والضربة الثانية مجرد لغو، فالدولة أي دولة لا تتحمل استهدافها بمثل هذا السلاح، مهما امتلكت هي منه.
وإذا كان هذا السلاح غير مطروح للاستخدام في الهجوم فإن ميزته الكبرى أنه يعطي الدولة المالكة له حصانة من الهجوم الخارجي، وبالتالي فإنه يُمَكنها من رسم سياساتها الخارجية دون الخشية من ردود فعل يهدد وجودها.
ومن خلال هذا المنظور فإننا يمكننا القول باطمئنان أنه لو كان نظام صدام حسين يملك سلاحا نوويا لأمن الغزو الخارجي. كذلك فإن المعلومات التي انتشرت عقب حرب تشرين عام 1973 تشير إلى أن رئيسة وزراء “الكيان الصهيوني” غولدا مائير قد بحث خيار استخدام السلاح النووي الإسرائيلي إذا هددت الجيوش العربية حدود ما قبل 1967. ومائير تعلم أن الدول العربية لا تملك سلاحا نوويا، وأن هذه الحرب مجرد حرب جزئية، لكن الحذر الإسرائيلي كان حاضرا باستمرار.
ومن خلال التدقيق في السياسات الإيرانية فإنه من الواضح أن مبدأ “ولاية الفقيه” فيه عدوان على مختلف الدول العربية، وأن السلوك الإيراني القائم على هذا المبدأ سلوك خطر ومدمر وآثاره مزلزلة لكل الدول والمجتمعات التي تداخل فيها، أي أن الخطر الإيراني متحقق قبل امتلاكها هذا السلاح، فماذا سيضيف امتلاكه للسياسة الإيرانية؟
أرجح أن الجديد الذي يضيفه السلاح النووي لإيران في المجال العربي هو مزيد من العربدة، ومزيد من سياسات التدخل والتخريب في البيئة والبنية الوطنية لكل الدول والمجتمعات المجاورة وخصوصا العربية منها، وذلك لما يوفره هذا السلاح من اطمئنان لانعدام فرص تعرض نظام “ولاية الفقيه” لهجوم عسكري خارجي، طبعا هناك خطر آخر على “الإقليم كله” من امتلاك ايران هذا السلاح هو خطر الحوادث والتلوث والانفجارات غير المضبوطة، وهذا الخطر لا يرتبط وجوده بوجود السلاح النووي وإنما يمتد لوجود البرامج النووي، وليس هذا الخطر مما نبحثه هنا.
السؤال الثالث: بعد ما بيناه من طبيعة الخطر الإيراني فما هو السبيل الذي يمكن للنظام العربي أن يسلكه لمواجهة هذا الخطر الإيراني، أو تحديدا لمواجهة السلاح النووي الإيراني؟.
هناك سبيل وهمي مخادع، وهناك سبيل حقيقي ممكن، واختيار أي من السبيل يعبر في جوهره عن توفر الإرادة الحقيقية للتصدي لهذا الخطر، ولمواجهة أي خطر آخر قادم.
** السبيل الوهمي هو السبيل المعتمد على استعارة الأمن من أطراف خارجية، استعارة الأمن من الولايات المتحدة، أو من الكيان الصهيوني، أو من أي جهة خارجية أخرى، وإذ نصف هذا السبيل بالوهمي ـ على أحسن الفروض وأكثرها حسن نية ـ فإننا لا نعتمد في ذلك على موقفنا من “الكيان الصهيوني”، أو من الولايات المتحدة، وإنما على معرفتنا اليقينية أن مواقف الدول تتبع مصالحها، وأن هذه المصالح متغيرة لا تؤتمن، وهي حين ترى مصلحتها الجديدة في مكان آخر، تتجه إليه دون أي وازع، وهذا سلوك دائم مستقر، ولعل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وترك عملائها لقدرهم، يقدم أحدث مثال على وهمية الاستناد إلى دولة خارجية لتوفير الأمن والأمان. ولعل التدقيق في الموقف الإسرائيلي وإصراره على امتلاك هذا السلاح رغم تمتعه بالحماية الكاملة من الولايات المتحدة والدول الغربية كلها يدلنا على أن هذه القناعة في النظر إلى مسالة الأمن راسخة عند قادة الكيان ومؤسساته.
وإذا كان أمان ” الخارج” وهمي، فإن كل خطط التنمية وكل مشاريع التطوير مهما بدت ضخمة، ومهما وضعت لها من ميزانيات، ومهما استجلب لها من شركاء، تبقى مشاريع مكشوفة أمنيا، ولا يمكن أن تحقق تقدما ورفاها حقيقيا لمجتمعاتها، ويمكن أن تنهار في أي لحظة وتتحول إلى مجرد رماد.
** والسبيل الآخر هو السبيل الحقيقي والممكن، وهو الوحيد الذي يوفر عامل الأمن والاطمئنان، وهذا السبيل يعتمد مبدأ إبطال فاعلية السلاح النووي الإيراني، وهذا لا يكون إلا بامتلاك النظام العربي لبرنامجه النووي، وبالتالي لسلاحه النووي، وحين يتم ذلك يصبح صد الخطر الإيراني قائم على تحصين الجبهة العربية الداخلية بالعدل والأمن والقيم الأصيلة، والمشاركة الشعبية الحقيقية.
هل يمكن للنظام العربي أن يمتلك مثل هذا البرنامج؟.
أليس في هذه الدعوة إطلاق لسباق تسلح في المنطقة؟.
أليس في هذا خطر على أمن المنطقة وسلامتها؟.
سيقول البعض إن هناك معاهدة الحد من الانتشار النووي، وهي معاهدة وقع عليها عدد من الدول العربية وهي تمنع امتلاك مثل هذا السلاح، ويمكن قول أشياء كثيرة من هذا القبيل، لكن كل هذا يمكن معالجته إذا توفرت الإرادة السياسية والوطنية لامتلاك هذا السلاح.
ويساعد على تجاوز هذه العقبة وأمثالها أن النظام الدولي النووي الراهن يفتقد إلى الأساس الأخلاقي على الأقل منذ أن أغمض عينه عن امتلاك ” الكيان الصهيوني”، للسلاح النووي، وقبول دول النادي النووي هذا الاستثناء الذي لا أساس له، وافتقاد قانون أو معاهدة دولية للأساس الأخلاقي يجعل تجاوز هذا القانون أو المعاهدة من الأمور الممكنة بل والأخلاقية.
يمكن لمصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والجزائر ودول أخرى أن تلتقي كل بما يملك من مال ومواد أولية وخبرات علمية وطاقة بشرية لبناء مثل هذا البرنامج، ولتحقيق مثل هذا المشروع، وستجد في الفضاء الدولي من يمد يد المساعدة لتحقيق هذا المشروع النووي العربي، وهذا المشروع بطبيعته وتاريخيته مشروع سلام وأمن، لأنه يضع حدودا لكل توتر، ويفرض سلوكا محددا لا يتجاوزه إزاء كل خلاف، بما فيه الصراع العربي الصهيوني.
ثم إنه قبل ذلك وبعده مشروع نهضة وتقدم وبناء اقتصادي، لأنه لا يقوم إلا على قاعدة من التقدم العلمي والتقني فحسب، وبل هو بطبيعته يستلزم مشاريع وصناعات ممهدة له، وأخرى ناتجة عنه، وذلك على مستوى الصناعات العسكرية، وعلى مستوى الصناعات المدنية والتعدين والانشاءات والبحث العلمي. وهو بطبيعته أيضا يرسخ وجود مؤسسات الدولة التي يقع عليها متابعة هذه المشروعات وتحقيق الاستقرار لها، وتأمينها، ويولد علاقات تفاعل وعمل مشترك بين الجامعات ومراكز الأبحاث وبين هذا البرنامج، كما أنها يولد مستوى من العلاقات بين الدول المشاركة تعلو على الخلافات البينية التي كانت تعيق دائما كل عمل عربي مشترك. ثم إنه يوفر الأرضية الحقيقية لاستقلال القرار العربي وخروجه من حيز التبعية للدول الكبرى، وهو حين يتحقق لا يوفر الاستقلالية للدول المشاركة فيه فقط، وإنما لمختلف الدول العربية، فهي جميعها تستظل ـ عرفت أم لم تعرف ـ بظل الأمن القومي العربي، والانتماء القومي العربي.
ليس هناك من إمكانية لمواجهة البرنامج النووي الإيراني، إلا ببرنامج مماثل عربي، وليس هناك إمكانية لتوفير أمن لأي دولة عربية إلا من خلال وجود مظلة الأمن القومي العربي، ما عدا ذلك أوهام لا يستند إليها عاقل.