لماذا نقاشاتنا السورية غير منتجة؟

إيلي عبدو

لا يكاد يمرّ حدث، سواء في المنطقة أو في العالم، دون أن يثير عاصفة جدل بين السوريين، ويكشف عن انقسامات عميقة بين انحيازاتهم الأيديولوجيا، وانتماءاتهم الطائفية، غير أن هذه العواصف تمر من دون أثر ملحوظ، وتنتهي بنهاية الشرارة التي أطلقتها، أي الحدث، من دون أن تؤسس لأي حوار يمكن أن ينتج أفكارا تنعكس على أحوال السوريين وتساعد في تحسنها، ولو نظرياً.
وعلى الرغم من أهمية ما يحصل حولنا، من تونس إلى أفغانستان، فإن انتظار حدث خارجي لإثارة نقاش بين السوريين، يكشف عن ضعف الأرضية التي تخاض عليها السجالات بيننا، واستخدام الخارج موضوعا لها، إذ إن سوريا، شهدت ثورة قبل عشر سنوات، وتداخلت مع حرب أهلية ثم تدخلات قوى أجنبية، فهزيمة وإحباط، أي عشنا مساراً معقداً من الأحداث، تستلزم كل مرحلة فيه، بحثا ونقاشا وإجراء مراجعة ونقد، خارج ثنائية ثورة ـ نظام غير المنتجة. فالأخيرة، رغم صوابيتها الأخلاقية، إلا أنها تغفل ثنائيات أخرى تتعلق بالمجتمع وانقساماته، وتختصر الصراع بحرب النظام على الشعب فقط، من دون الانتباه لصراع الشعب ضد بعضه، بوصفه جماعات.
انطلاقاً من ذلك لا بد من بحث، شكل الدولة وحق الجماعات في تقرير مصيرها، والتخلص من التعريفات الأيديولوجية للبلد، كذلك العلاقة مع الدين، وأوضاع المرأة والأقليات ومجتمع الميم، والعلاقات مع دول الجوار، للانتقال من لوم الاستبداد فقط، وهو مطلوب أخلاقيا وسياسياً، إلى بحث التناقضات التي عبر منها الاستبداد، وأوصلتنا إلى الهزيمة. هذه الأرضية للنقاش السوري، تحتاج بطبيعة الحال، إلى التخلي عن الانحيازات الأيديولوجية، وعن التعريفات البعثية لسوريا، والتفكير بمرونة، بما يضمن، حرية السوريين كجماعات وأفراد، ما يعني، أسبقية التفكير بالسوريين وطبيعة اجتماعهم، وليس التفكير بسوريا والتمسك بتعريفاتها السابقة. السوريون يصنعون سوريا، وليس سوريا تصنع السوريين، هذه هي المعادلة التي يمكن أن تشكل معيارا للنقاش السوري. وتجاهل هذه الإشكاليات المتعلقة بتغير النظرة لأنفسنا، انطلاقا من العداء لأسباب الاستبداد وجذوره أكثر من شكل الاستبداد، جعل عدداً كبيراً من السوريين، ينطلقون في مقاربة مسألة خارجية والتطرف لرأيهم حيالها، من الانقسامات في بلدهم، وليس من التفكير بهذه الانقسامات. الفرق بين الأمرين، يكشف فقر السياسة، والاكتفاء بانتماءات ما قبل دولاتية.
أحداث مثل أفغانستان أو تونس، تستدخل، إلى الوعي الانقسامي الرافض للانتقال إلى السياسة، وبحث ما يضمن تصريف التناقضات، في أشكال حكم تراعي حقوق الجماعات والأفراد، وبالتالي، يجري تقليص الأحداث الخارجية، بما تحمل من تعقيدات ومن شروط موضوعية تتعلق بمساراتها، لتصبح على مقاس الانقسامات السورية المتروكة كمشاع، من دون أي تفكير سياسي. وعليه، تكون المعرفة ضحية، النقاشات تلك، لمرتين، الأولى انعدام السياسة، والثانية، سحب الأحداث من سياقاتها وقراءاتها في سياق محلي. والأهم، أن النظرة السورية للعالم، تنحصر بما يخدم الانقسامات ويعززها، ويضيف إليها مادة، لمواصلة المعارك والسجالات الكلامية، وفي ذلك تفويت لفرصة الاحتكاك مع العالم بشكل مختلف، قوامه التفاعل الإيجابي، مع التجارب الخارجية الناجحة، للمساعدة في إدارة الانقسام السوري ونقله إلى السياسة، بدل تجيير الخارج لصالح انقسامات الداخل.
يضاف إلى ذلك، أن النقاشات، بسبب أوضاع السوريين وتشتتهم بين داخل مقموع وخارج موزع بين مهجرين ولاجئين، تدور، على مواقع التواصل، أي في فضاء افتراضي وليس في فضاء عام، وفي الأول، النسيان هو مصير أي سجال مرتبط بحدث يأتي آخر ويزيله، أما في الثاني، فالنقاشات يتم تثميرها ضمن حوار مجتمعي ينعكس في مؤسسات، وقد يخلق رأياً عاماً، ويضغط لصوغ قوانين أو تشريعات. هكذا فإن ما يمر بصعوبة من أفكار جادة، ضمن مناخ الانقسامات السورية الضاغط، يزول سريعا بسبب، طبيعة العالم الافتراضي السريع الذي تدور فيه النقاشات السورية طوال الوقت، وانعدام وجود فضاء عام في ظل الاستبداد وفشل الثورة. وفي النتيجة، تخاض النقاشات السورية، لا سيما المرتبطة بالخارج، على قاعدة انقسامية تقل فيها السياسة، وتتقلص الأحداث المحيطة وتضيق لتصبح على مقاس معاركنا، وإن برز ما هو جاد، فهو لا يؤسس لشيء، بسبب طبيعة الفضاء الافتراضي، حيث ينتهي أي نقاش بانتهاء شرارته. ما يجعل هذه النقاشات، بلا مردود معرفي، وأقرب إلى ساحات المعارك، التي تستخدم فيها كل الأسلحة، وتنتعش في ظلها، الانتماءات القبلية والطائفية والأهلية، وإن بشكل غير مباشر، وباستقدام أحداث من الخارج وصبغها بما نحمل من كراهية لبعضنا بعضاً.
كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى