سوريون وثورة

رأي الملتقى

تصادف اليوم الذكرى الثامنة لمجزرة الغوطة التي ذهب ضحيتها ماينوف عن ١٥٠٠ إنسان جُلهم من الأطفال، فكانت مروعة فيما مرت على العالم ” الحر ” الديمقراطي مرور الكرام.
بعد ثماني سنوات من تلك المجزرة التي ارتكبها نظام الإجرام والفساد والتبعية الحاكم المأجور في دمشق؛ ما يزال شلال الدم السوري متدفقًا دونما أفق واضح لخلاص مقبول يشكل نقطة إنطلاق لإعادة الحياة إلى سورية شعبًا وأرضًا بعد التخلص من نظام لم يعد يمثل أكثر من غطاء لقوى الإحتلال الأجنبية لتتمادى في حروبها المتقاطعة أو المتناسقة لتقاسم سورية بعد إنهاك من بقي فيها من شعبها وتحويله إلى عابري سبيل ينتظر الإعاشة الشهرية ممن هم سبب بلائه وخرابه.
في الأيام الأخيرة استعاد النظام ومعه قوات الإحتلال الروسي قصفهم على بعض مناطق إدلب مما يضيف عائلات بكاملها إلى لوائح الشهداء المتخمة بمئات آلاف الأبرياء. أما حصار درعا فمستمر مترافقًا بعدوان يومي من قوات النظام وميليشيات التخريب الإيرانية وسط حماية كاملة روسية مع مراوغة لم تعد خافية على أحد.
وسط هذه الأجواء الملبدة بالعدوان والجرائم؛ يستمر تشرد الفعاليات الوطنية والنخب المثقفة والمهنية والإجتماعية في كل مكان من العالم دون أن ترتقي إلى مستوى القضية السورية ومتطلبات الوعي بها وبآثارها المستقبلية وضرورات التصرف العملاني المخطط الواعي الهادف الذي يعرف ماذا يريد بالتحديد الآني والإستراتيجي وصولًا إلى تحقيق أمنيات عزيزة غالية للشعب السوري خرج متمردًا ثائرًا لأجها ودفع أثمانًا باهظة جدًا جدًا فداء لها فاقت كل ما قدمته شعوب أخرى لنيل حريتها وكرامتها.
هل يعني هذا افتقاد النخب الوطنية السورية للوعي أم للإرادة أم للإثنين معًا ؟؟
لا نرى أن وعيًا وطنيًا آنيًا ينقص نخبنا الوطنية الكثيرة جدًا..فهي تبرع في توصيف الواقع وتشخيص معاناة الشعب السوري ويظهر هذا واضحًا فيما تعلنه وتتخذه من مواقف.
فهل تفتقر إلى إرادة وطنية حرة فاعلة تجعل منها كفاءة عملية نضالية تدفع بالقضية السورية إلى مستقبل يخدم المصالح الشعبية والوطنية ؟؟
لا نظن ذلك فهي فاعلة في نطاقها الفئوي متحركة على أرضيتها الجغرافية حيثما تتواجد مما يبين لها رغبة في العمل والتغيير وإصرارًا عليه وتمسكًا به.
فما المشكلة إذن ؟؟ نرى أن النخب الوطنية السورية تعاني من واقع مثلث الأبعاد يكبلها ويعيق تحولها إلى قوة وطنية فاعلة مؤثرة في مجرى الأحداث حامية للمطالب الشعبية مدافعة عنها:
١ – اختطاف مؤسسات التمثيل الشعبي من قبل الدول ذاتها أو من قبل أدواتها وأذرعها الإقليمية..فتحول ما يسمى الإئتلاف ومتفرعاته عائقًا معرقلًا ومنافقًا يراوغ على حساب الأهداف والمطالب الشعبية..مما جعله ألعوبة بأيدي من عينه أو فرض شخوصه على مؤسساته فصاروا يتاجرون بالقضية إلى أن جعلوا من فكرة ” الثورة السورية ” مدعاة للتجريح والتشفي من قبل البعض.
٢ – الفصائل المسلحة وهي أيضًا لم تكن إلا أدوات أنشأتها واستخدمتها تلك الدول ذاتها وأذرعها ذاتها أيضا وراحت تمارس دورًا تخريبيًا إجراميًا للتخلص من النخب الشريفة والقيادات الشعبية الميدانية بالإغتيال أو الخطف أو التهجير. والهدف تكفير الناس في التغيير، والمتاجرة بمطالب الناس وحقوقهم المشروعة…فضلاً عن الخيانات الميدانية التي أدت إلى استعادة النظام لكثير من المناطق المحررة.
نتج عن هذا الدور اغتيال أكبر عدد من النخب الميدانية الشعبية المخلصة وهروب كثيرين ممن بقوا أحياء.
٣ – الفئوية وهي تلك الحالة العقلية – النفسية التي لا تستطيع تجاوز الذات الحزبية أو العقائدية أو الشخصانية لترتفع إلى مستوى القضية الوطنية وضروراتها ومتطلباتها.
والفئوية نوع من الإهتزاز الثقافي الناتج عن الإستبداد المزمن وما رافقه من خوف وهلع وممارسة السياسة بشكل سري ورعب دائم.
هذه الفئوية التي لازمت مرحلة ما قبل الثورة يبدو أنها تأصلت في نفوس أغلب النخب حتى تلك التي خرجت من سورية وتعيش في بلاد أخرى مستقلة متحررة.

وهي التي تمسك النخب عن تجاوز ذاتها إلى تشكيل قيادة وطنية يتطلبها واقع القضية السورية بإلحاح شديد..رغم أنها في معظمها نخب ناشطة فاعلة في محيطها المباشر متمسكة بأهداف الثورة .
وفي المحصلة فإن هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تشرذم النخب الوطنية وإنسحاب الكثيرين منها من ميدان العمل المباشر فكانت النتيجة استمرار الثورة بغير قيادة ولا أداة وطنية ولا برنامج مرحلي واضح محدد.
تشتت النخب إلى ثلاث فئات مختلفة :
الأولى :  فئة ” الإنتظاريون ”  وهي الأكثر عددًا والأعلى مهنية وثقافة ونوعية.
تنتظر الحل يأتي من الدول أو العالم الآخر والغالبية ما تزال تنتظر الحل والفرج عن طريق أميركا. لم تستوعب بعد أن أميركا هي المحتل الأساس وأنها هي الراعي للجميع والنظام معًا.
الثانية : المنسحبون من أعباء العمل النضالي إلى ما يسمى صناعة الوعي ومناقشة أفكار نظرية مستقبلية . وهي تتناسى أنها لن تقدر على صناعة وعي حقيقي لأن كل ما تناقشه يبقى في نطاقاتها النخبوية هي دون أي امتداد شعبي شبابي ميداني.
هؤلاء آثروا ترف الحوارات الثقافية حيث يبرعون؛ على متطلبات العمل الوطني النضالي وما فيه من مشقات وتضحيات ومواجهات ومسؤوليات ومتابعة يومية..أو هم لا يقدرون عليها أو هي فوق طاقاتهم وإمكانياتهم.
الثالثة : ” الناشطون ” وهم أؤلئك الذين يكافحون ويتابعون ويقدمون تضحيات بحسب ما تسمح به ظروفهم وإمكانياتهم.
هؤلاء كثيرون متنوعون متوزعون جغرافيًا ومنتظمون مجموعات مجموعات في تشكيلات وطنية تسعى وتعمل دون أن تكون قادرة على الفعل الفاعل المؤثر.
هؤلاء هم الفئة الأكثر إخلاصًا وإلتزامًا بالقضية الوطنية وثورة الشعب السوري. وهم الأكثر متابعة وإهتمامًا بالأحداث ورغبة في التعبير عن الموقف الوطني أو الرؤية الوطنية للأحداث وتحليلها.
هؤلاء هم الذين يعملون ويضحون وينشطون بزخم في مختلف أنحاء العالم لخدمة القضية والدفاع عن الناس ومطالبهم وأهدافهم.
المشكلة أن هؤلاء لم يجتمعوا في إطار وطني واحد وهو الهدف الذي يشكل تحديًا لهم وأمامهم ما لم ينجزوه في أقرب وقت فلن يصبحوا قوة وطنية ذات رأي يحسب لها حساب أو ذات فعالية مؤثرة .
من هذه الفئة شخصيات عسكرية ومهنية وأكاديمية كثيرة وذات طاقات وإمكانيات فردية تنشط وتتابع وتحلل وتعمل بشكل يومي لخدمة القضية بأبعادها المختلفة. لكنهم أفراد لا ينضوون في تشكيل وطني واسع.
لن نتحدث عن أؤلئك السوريين الذين انسحبوا من الميدان تمامًا وانصرفوا إلى شؤونهم الحياتية الخاصة أو يكتفون بكلام هنا وهناك في وسائل التواصل الإجتماعية. ومن هؤلاء كثيرون كانت لهم مساهمات نشطة لكنهم لسبب ما انسحبوا ولم يعد لهم حساب.
تراكم الأحداث يزيد الأعباء على النخب المخلصة الملتزمة أن تتجاوز فئويتها وذاتياتها الحزبية والعقائدية والسياسية لتبلور معًا وفي أسرع وقت كيانًا وطنيًا يجمع كل الطاقات الوطنية ويشكل قيادة مخلصة مستقلة للعمل الوطني تعبر عن الشعب وتلتزم بالقضية بعيدًا عن تجاذبات المصالح الدولية.
كيانًا وطنيًا يمثل البديل الشرعي عن الإئتلاف الذي يتفق الجميع على فشله وتلاعب الأجهزة والدول والأموال بقادته ومسؤوليه.
إن عدم تمكن الوطنيين المخلصين من تشكيل جبهة للعمل الوطني سوف يترك الساحة للإئتلاف وما أدراك ما الإئتلاف ولن تنفع كل الشتائم والإتهامات له ولقياداته.
إن القضية السورية هي الآن قضية وجود وطن وشعب ولم تعد قضية سياسية تتوخى الحرية والكرامة.
ما لم نرتفع جميعًا إلى مستوى التحدي المصيري ونشكل معًا جبهة وطنية واحدة ذات برنامج عمل مرحلي واضح يحدد الموقف الوطني الموحد المطلوب من كل التشكيلات والقوى والمجموعات ويوجه الأحداث بصيغة المشترك المتفاعل كالجسم الواحد؛  فلن نستطيع أن نحقق شيئًا ولا أن نفك حصارًا أو نمنع عدوانًا أو نفرج عن معتقلين أو نعيد مهجرًا إلى بيته.
فليدرك الجميع أن الإهتمام التام بالقضية السورية ينبغي أن يتقدم على أي اهتمام آخر مهما حسنت النوايا.
فلينصب كل جهدنا وكل تفكيرنا وعقلنا وعملنا على تشكيل جبهة وطنية بأسرع ما يمكن..والمسؤولية الأولى والأخيرة فيها تقع على النخب المخلصة وفي مقدمتها تلك الأسماء البارزة المعروفة بصدقها وإخلاصها والتزامها الوطني الحر: قادة عسكريون..مثقفون وكتاب ومفكرون..مهنيون وأكاديميون وفنانون وكل الشباب المخلص الواعي الذي يعمل في كل مكان..وما أكثر هؤلاء وما أفعلهم إن اجتمعوا وتحالفوا.
إن التحالف الجبهوي لا يلغي خصوصية أحد لكنه يضيف إلى قوته قوة ويجعل من الجميع معًا قوة فاعلة مؤثرة.
الأحداث تتسابق والعدوان مستمر متصاعد والإستفراد بالمناطق الصامدة وبالمجموعات الحرة وبالشعب الأبي في تواتر مخيف. وما المستقبل إلا من نصنعه نحن بأيدينا اليوم وليس غدًا.
ملتقى العروبيين السوريين يمد يديه لكل وطني حر شريف. فلندخل جميعًا في الحساب وإلا سنخرج جميعًا من كل حساب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى