من “ثورة الخميني” إلى “انتصار طالبان”

علي أنوزلا

إحكام حركة طالبان سيطرتها على كلّ جغرافية أفغانستان المتشعبة والمعقدة، ودخولها الظافر إلى كابول عام 2021، يذكّران، إلى حد ما، بانتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. في الحالتين هو انتصار للإسلام الحركي، سواء تعلق الأمر بالإسلام الشيعي في إيران أو السنّي في أفغانستان. ولو حاولنا عقد مقارنات بين الحالتين، سنجد تقاطعا كثيرا بينهما لا ينبغي أن يسوقنا إلى الخروج باستنتاجاتٍ قد تكون خادعة، لأنه يصعب إثبات صحتها اليوم في الوقت الذي ما زالت فيه الأحداث تتفاعل داخل أفغانستان. في البداية، لا بد من تسجيل ملاحظة أن الثورة الخمينية في إيران حملت شعار محاربة أميركا، التي وصفها الخميني بـ “الشيطان الأكبر”. ولكن ما كان لتلك الثورة أن تنجح لولا أن أميركا قرّرت التخلي عن حليفها شاه إيران الذي كان يملك أقوى جيش في المنطقة مسلح بأحدث الأسلحة الأميركية. ونجح العقل الإستراتيجي الأميركي آنذاك في تجيير قيام الثورة الإسلامية في إيران لمصلحة حساباته الاستراتيجية في عز سنوات الحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي، بهدف إيجاد حزام من الإسلام الحركي المعارض للأيديولوجيا الشيوعية على تخوم الإمبراطورية السوفييتية، يكون قادرا على وضع حد لتمدّدها، وفي الوقت نفسه، مناوشتها بقصد إنهاكها، يمتد من إيران الخميني إلى جبال أفغانستان التي شهدت في العام نفسه، غزو الاتحاد السوفييتي أراضيها، وظهرت فيها حركات الجهاد الإسلامي، بدعم ومساندة من أميركا. وبالفعل، كانت الحرب الأفغانية الأولى بمثابة شوكةٍ غُرست في خصر الإمبراطورية السوفييتية، وعملت طوال عقد على استنزافها حتى نخرتها من الداخل، ومهدت لسقوطها المدوّي بداية تسعينيات القرن الماضي. يكاد الشيء يتكرّر اليوم في أفغانستان، فحركة طالبان التي حملت السلاح، طوال العقدين الماضيين ضد واشنطن، تعتبر أميركا عدوتها، ولكن ما كان لها أن تحقق ما وصلت إليه اليوم لولا قرار أميركا الانسحاب من أفغانستان وإبرامها “اتفاق سلام” معها، إذ ثمّة من يقرأ في هذا “الهروب” الأميركي المبرمج خطة استراتيجية في حروب واشنطن المستقبلية مع عدويها الحقيقيين، الصين وروسيا. وقد أفصح عن هذه الخلفية الرئيس الأميركي، جو بادين، عندما قال إن “الصين وروسيا تريدان من الولايات المتحدة أن نستمر في إنفاق مواردها في قتال لا يتوقف”، في إشارة إلى أن بلاده لن تستمر في لعب دور الدركي الذي كان يحمي حدود روسيا والصين. ولعل هذا التوجه الجديد للإدارة الأميركية يدخل ضمن خططها الاستراتيجية لاحتواء القوتين اللتين تنافسان أميركا على زعامة العالم وإنهاكهما، بوضع عدو إيديولوجي لهما على حدودهما، قادر على التنغيص عليهما معنويا من خلال إذكاء روح التحدّي والصمود عند مسلمي الصين الإيغور المضطهدين، وإحياء روح الجهاد عند مسلمي الشيشان الذين ما زال حلم الاستقلال عن روسيا الشيوعية يراودهم.

لقد أعطى الانتصار المبهر والمفاجئ للثورة الخمينية، نهاية سبعينيات القرن الماضي، شحنة معنوية قوية للإسلام الحركي في المنطقة كلها، وشجّع على ظهور بوادر تيارات تتبنّى نهج الثورة الإسلامية في أكثر من دولة عربية وإسلامية، أنعشت وجودها دعوة الخميني نفسه القاضية بتصدير نموذج ثورته إلى الخارج نحو العالم. وكيمياء التفاعل نفسها نكاد نلمسها اليوم عند أنصار التيار السلفي الراديكالي في المنطقة الذين هللوا لدخول حركة طالبان المنتصرة كابول. وعلى الرغم من أن “طالبان” لا تتبنّى شعار تصدير نموذجها إلى الخارج، إلا أنها لا يمكنها أن تتحكّم في مفعول تأثير صور انتصارها العابر للحدود، فتصدير الأفكار والإيديولوجيات لم يعد يحتاج الجيوش وبعثات التبشير بها، بما أن تكنولوجيا التواصل الرقمي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة، يحدث فيها التأثر والتفاعل بسرعة كبيرة وقوة أكبر وكلفة لا تساوي تيار الهواء الأثيري الذي ينقل الصور والأفكار. ومثلما كان للثورة الإيرانية تأثيرها على بروز نواة إسلام حركي في المنطقة، يجب انتظار أن يبعث انتصار “طالبان” دينامية جديدة في تيارات الإسلام الحركي، خصوصا السلفي منه، في وقتٍ تشهد فيه تجارب الإسلام السياسي المحسوب على تيار الإخوان المسلمين، نقيض الإسلام السلفي، انتكاسات متتالية في كل الدول التي وصلت فيها إلى السلطة، وهو ما يجعل المنطقة مقبلةً على مستقبل غامض سيحتد فيه الصراع بين الإيديولوجيات الأصولية المتشدّدة الساعية إلى إقامة وفرض تصوراتها التي ترى في حركة طالبان، بعد ما حققته من انتصار باهر، نموذجها الأعلى.

ما بين ثورة الخميني وانتصار “طالبان” ثمّة كثير من التواصل والانفصال، لكن كلا الحالتين جسّدت انتصار قوة الإرادة عند أصحاب الإيديولوجيات القادرة على الصمود والمقاومة، وهو ما اعترف به الرئيس الأميركي، عندما قال، في تبريره السقوط السريع والمدوّي للجيش الأفغاني الذي صرفت عليه إدارته مليارات الدولارات، بأن واشنطن منحت كل الفرص للأفغان لتقرير مستقبلهم، لكن لا يمكنها إعطاؤهم الإرادة للقتال من أجل ذلك، وفي هذا درس لكل القوى ذات الإرادة الحقيقية الطامحة إلى التغيير. وفي المقابل، استشراء الفساد وسياسة شراء الذمم والولاءات، وإنفاق الأموال الطائلة على تسليح الجيوش وبناء أجهزة الأمن والمخابرات التي تحسب أنفاس الناس، لا تبني الدول، مهما بلغت نسبة الإنفاق عليها، لأنها لن تصمد في وجه قوة الإرادة عند الشعوب، خصوصا عندما تكون هذه الإرادة صادقة وحقيقية وقوية وخالصة لوجه الحق.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى