مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، وحصول تحوّل ديمقراطي في دول أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة لأنظمة شيوعية تدور في فلكه، روّجت مراكز بحث غربية تقديراً عنوانه “الاستثناء العربي”، مفاده بأن العرب غير مؤهلين للتحوّل الديمقراطي، لأسبابٍ تتعلق بخلفيتهم الدينية والثقافية. ودعتهم، على خلفية سعيها إلى نشر العولمة الغربية ومعاييرها الأخلاقية والاجتماعية، إلى تغيير مفاهيمهم الدينية لتتطابق مع الأخيرة. تقدير ينطلق من وجود سبب جوهري في بنية الاجتماع العربي يتعارض مع فكرة الديمقراطية ومستدعياتها.
وقد بينت وقائع ثورات الربيع العربي، التي حملت سمة ثورات ديمقراطية بامتياز، أن ترويج هذا التقدير ليس بريئاً، وأن لترويجه وظيفة سياسية استعمارية هدفها إبقاء الوضع القائم في الدول العربية على ما هو عليه، عبر زرع مفاهيم غير موضوعية عن عجز بنيوي عربي في مجالي الحداثة والتحوّل الديمقراطي، وذلك لتأمين مصالح خارجية، أوروبية تحديداً، قائمة وضمان استمرارها، فالترويج ضرب عصفورين بحجر واحد: التشكيك في الخلفية الثقافية للشعوب العربية، الإسلام، في متابعةٍ لصراع سياسي وثقافي مديد معه، ودقّ إسفين بين أبناء هذه الشعوب عبر بذر الشقاق والانقسام السياسي على خلفية الموقف من الثقافة السائدة، الإسلام، ودورها في الحياة العامة، وقطع الطريق على أي توجّه ديمقراطي يمكن أن ينشأ في العالم العربي، لأنه يتعارض مع مصالحها. هذا ما فضحته وزير الخارجية الأميركية في إدارة بوش الابن، كوندوليزا رايس، حين اعترفت بدعم الدول الغربية أنظمة عربية استبدادية ستين سنة.
لعب ترويج “الاستثناء العربي” دوراً مؤثراً في كبح تطلعات الشعوب العربية إلى أنظمة سياسية دستورية ومؤسسات وقوانين وعدالة تستمد شرعيتها من الإرادة الشعبية، وفي تفجير صراع داخلي على الخيارات السياسية على خلفية الموقف من الهوية، بإحداث انقسامٍ بين أبناء الشعب الواحد بين تيار علماني يرى الإسلام كعب أخيل الشعوب العربية في موقفها من أنظمة الحكم والديمقراطية؛ وتيار إسلامي يرى في العلمانية تضييعا للهوية واستسلاماً للغزو الثقافي. وقد أكّد موقف الدول الغربية، الأوروبية تحديداً، من ثورات الربيع العربي؛ كون معظم ثوراته وقعت في مناطق نفوذ ومصالح أوروبية؛ وتعاطيها مع تحولاتها وتطوراتها، الهدف من ترويج مقولة “الاستثناء العربي”، ومن التشكيك في أهلية العرب وثقافتهم التفاعل مع والانخراط في الخيار الديمقراطي، بسلوكها المبني على ازدواجية لافتة: العمل على احتواء الثورات وتفشيلها للمحافظة على الوضع القائم، لأن معظم الأنظمة العربية السلطوية والاستبدادية التي انفجرت الثورات للتخلّص منها، مرتبطة بالدول الاستعمارية السابقة (المتروبول) بحبل سرّي، إذ ما زالت تخضع لهيمنة ضمنية، وتبعية مضمرة أساسها تفاهمٌ يقايض الحفاظ على المصالح الاستعمارية بغطاء سياسي، يوفر لهذه الأنظمة شرعية دولية وضمانة بعدم كشف فشلها وفسادها وعدم العمل ضدها. ولأن الثورات على وشك إطاحة معادلات جيوسياسية أسّستها ورعتها الدول الاستعمارية، إذ صاغت ترتيبات محلية وإقليمية للإبقاء على الأنظمة العربية في حالة تنافر وتنافس وصراع، اقتضت هذه الترتيبات رفع الجدران بين الدول العربية، وتعميق الحذر والشك وانعدام الثقة بينها؛ وتضييق حجم التعاون والتبادل التجاري والاستثماري؛ وبقاء دول عربية تحت سيف العوز للحدّ من قدرتها على قيادة المنطقة؛ كمصر؛ وأخرى تورّد ثرواتها الطائلة إلى بنوك واستثمارات بعيدة، وتبتاع أسلحة لا تحتاجها لتشغيل الصناعات العسكرية في دول الحماية ثمناً لهذه الحماية، وجعلها، الأنظمة العربية، ضعيفة وهشّة وتفتقر للأمان، وفي حاجة دائمة لسند خارجي وقابلة للابتزاز ومستعدّة لتقديم تنازلات سياسية واقتصادية وتجارية، وموطئ قدم للدول الاستعمارية يمنحها منصةً للتحرّك في دول المنطقة الأخرى، لكسب نفوذ وتحقيق مصالح، ولأن الخيار الديمقراطي لا يتماشى مع استمرار الاستعمار الخفي، ونهب ثروات الشعوب والحط من كرامتها، من جهة، والعمل، من جهة ثانية، على مدّ جسور مع القوى الثورية بالتنسيق مع أنظمة عربية تابعة لضمان استمرار النفوذ والمصالح في حال نجاح هذه القوى في إحداث التغيير الديمقراطي المنشود، فالدعم النسبي الذي قدّمته دول أوروبية لقوى الثورات لم يكن لإيمانها بالتغيير الديمقراطي في العالم العربي أو قناعتها بحق هذه الشعوب في الحرية والكرامة؛ ولكن لاختراقها وتوجيهها نحو نهاياتٍ تخدم مصالحها واستمرار نفوذها العلني والخفي، أو كسب حظوة لدى الأنظمة الجديدة؛ في حال نجاح قوى التغيير؛ للحفاظ على النفوذ والمصالح.
وقد تجلى ذلك بوضوح في مواقفها من انفجار الثورات؛ إذ عرضت فرنسا إرسال قواتٍ إلى تونس لقمع التظاهرات، وموقفها الرخو من عمليات القتل في سورية التي استخدم فيها النظام كل صنوف الأسلحة، بما في ذلك الكيميائية، وتحت التعذيب وتدمير البيوت بالبراميل المتفجرة وقصف المشافي والمدارس والأسواق الشعبية بالطائرات والتهجير وتعفيش البيوت، ورفضها إقامة بنى تحتية خدمية وتوفير فرص عمل للنازحين في الشمال السوري بإنشاء معامل لصناعاتٍ تحويليةٍ وغذائية، لأن ذلك يسمح باكتفاء النازحين وتحرّرهم من ضغط الحاجة، ما يمنح قوى الثورة فرص المناورة والمساومة وتنويع خياراتها والعمل على تحقيق أهدافها، وتقديمها الدعم والتمويل للإغاثة ضمن جدولٍ مضبوط، بحيث يبقى النازحون والثوار أسرى “كرم” هذه الدول، وضحايا محتملين لها في حال خروجهم على الخطط والمسارات المحدّدة والمطلوبة. ذكر أحد العاملين في مجال الإغاثة أن دولة أوروبية قدّمت أموالاً لشراء مواد غذائية مصحوبة بتوجيهات بشراء مواد منتهية الصلاحية؛ كي تفسد النشطاء؛ بفتح باب للتلاعب أمامهم؛ والسيطرة عليهم، وكي تزرع بذور الشك وعدم الثقة بين الثورة وحاضنتها الشعبية.
وما زاد في تعقيد المشهد السياسي في الدول التي شهدت ثوراتٍ شعبية وقوعها في مناطق نفوذ أوروبية، كما ذكر أعلاه، وسعي الولايات المتحدة إلى استثمار المناخ الثوري في الحصول على موطئ قدم فيها من خلال الضغط على قادة هذه الأنظمة للتنحّي؛ والتواصل مع القوى المرشّحة للفوز، الإخوان المسلمون، تنفيذا لتصورها لمستقبل هذه المنطقة، ودخول قوى منافسة على خط الصراع، إيران وروسيا والصين، ما رتّب حالة من الاحتكاك الضمني تارّة والمباشر أخرى، دفع الإدارة الأميركية إلى التخلّي عن توجهها الخاص، القاضي بدعم قوى التغيير، والعودة إلى التنسيق مع حلفائها الأوروبيين، والتفرغ للرّد على حشد الموارد العسكرية الروسية في سورية، وإقامة قاعدتين، بحرية وجوية، فيها وتمدّدها نحو ليبيا ومصر والسودان وأفريقيا الوسطى، وتهديدها الجناح الجنوبي لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وغدا هدفها (الإدارة الأميركية) إغراق روسيا في المستنقع السوري، واحتواء الصين عبر تشكيل تحالفاتٍ ورسم خطط ووضع برامج مع دول حليفة في أوروبا (الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) وآسيا (اليابان والهند والفيليبين وفيتنام وإندونيسيا)، بالإضافة إلى أستراليا، في ضوء استراتيجية “التنافس بين القوى العظمى”، والعمل على احتواء التمدّد الإيراني في المنطقة. قاد تعدّد الدول المنخرطة في الصراع على سورية، بتصوّراتها وأهدافها وأدواتها، إلى البلبلة وعدم اليقين بين صفوف الثوار وحاضنتهم الاجتماعية؛ وإلى تعميق الخلافات الداخلية؛ والانقسامات التنظيمية والسياسية القائمة بين الأطر السياسية والعسكرية، والتنافس والتسابق على الدعم بين الفصائل المسلحة؛ وإلى تآكل المكاسب الميدانية والسياسية.
لقد لعب الموقف الغربي الاستنسابي من حقوق الإنسان، والسلبي من إقامة نظام سياسي ديمقراطي، يحقّق العدالة والمساواة، ويجلب الازدهار والاستقرار في الدول العربية، وزرع إسرائيل في قلب العالم العربي؛ لتحرس ضعفه وتضبط تفاعلاته الداخلية، دوراً في تحوّلات الرأي العام العربي؛ وشيوع ازدواجية معايير من الغرب وقيمه السياسية والاجتماعية: يريد دعمه في صراعه مع الأنظمة الاستبدادية، ويرفض قيمه الأخلاقية والاجتماعية، الفردية الحادّة وحرية الفرد في التصرّف بجسده وزواج المثليين، وتناقضه الداخلي بين ليبراليته وفرض رؤاه وعدم قبوله بتعدّد القيم الأخلاقية والاجتماعية والنماذج الحضارية، المتعارضة مع قيمه ومعاييره الاجتماعية، ما جعله ثوريا سياسياً ومحافظاً اجتماعياً وأقرب إلى القوى الرافضة للغرب، والمتهمة بتجاوزات خطيرة على الحريات والحقوق. وهذا منح حركاتٍ سياسيةً عربية، قومية ويسارية وإسلامية، فرصة اللعب على عواطف الشعوب وتعميق العداء لكل ما هو غربي وتبرير السلطوية والسياسات الأمنية بذريعة حماية الاستقلال الوطني من الاختراقات الخارجية؛ ومواجهة الإمبريالية؛ والغزو الثقافي، على التوالي.
لقد تكاملت العوامل الخارجية والداخلية، وتعاضدت على تطويق ثورات الربيع العربي، ولكن لاعتبارات متباينة، وإجهاضها في النهاية، تجسّدت الاعتبارات الخارجية بـ “حتى لا تمتد رياح التغيير إليها”، موقف دول الخليج العربية، و”لأنها قد تأتي بمن لا يخدم مصالحها”، موقف الدول الأوروبية، و”لأنها تشكّل خطراً على إسرائيل”، موقف الولايات المتحدة، و”رفض تغيير الأنظمة بثورات شعبية”، موقف روسيا والصين، في حين تجسّدت الاعتبارات الداخلية لتكريس السلطوية بذريعة السيادة الوطنية، موقف القوميين أصحاب وصف الثورات بالربيع العبري، وبذريعة مواجهة الإمبريالية، موقف اليساريين أصحاب التضامن مع أنظمة الممانعة، وبذريعة الدفاع عن الخصوصية، موقف الإسلاميين أصحاب مبدأ الديمقراطية كفر. لقد نحرت ثورات الربيع العربي على مذبح مصالح جيوسياسية خارجية، أوروبية بشكل خاص، وتطلّعات استبدادية محلية، وذهبت تضحيات قواها السياسية والاجتماعية ثمناً للمحافظة على ترتيبات وتوازنات سياسية واقتصادية استعمارية، ولتكريس توجهات سلطوية راسخة.
المصدر: العربي الجديد