لم يكن الشعب السوري في درعا، وعندما انطلق بثورته الظافرة، ثورة الحرية والكرامة، في أواسط آذار / مارس 2011، ينتظر دعمًا من أحد، ولم يكن يدور في خلده أيضًا أن هذا النظام الأسدي المجرم، والذي خبره عبر تاريخ سورية الحديث، سوف يتنازل ويغادر ببساطة ودون دماء، بل كان يدرك (أي) هذا الشعب العظيم، أن سورية العظيمة تستحق منه تضحيات وتضحيات جسام من أجل إنجاز الحرية والكرامة، وإعادة بناء صرح الوطن الحر المستقل، المنعتق من كل الأمراض التي ساهم بوجودها الأب المجرم، وابنه الوريث غير الشرعي، ولقد تحرك الإخوة في حوران من لحظتها، وخرجت معهم ونصرة لهم وللكرامة كل أحرار سورية، فكان ماكان من تدخلات دولية وإقليمية، ومن تضحيات جمة جاوزت عتبة المليون شهيد من السوريين المدنيين الشرفاء، حتى راح البعض يقارنها بثورة المليون شهيد من شعبنا العربي في الجزائر، حيث نالت الجزائر استقلالها وتحررها بعد ذلك، وبعد كل هذه التضحيات على مذبح الحرية.
اليوم وبعد ثلاث سنوات من توقيع ماسمي باتفاق (المصالحة) في الجنوب، الذي رعته روسيا والأردن والولايات المتحدة الأميركية، جاء نظام نظام العصابة الأسدي لينقض على الإتفاق، وينتهكه كما انتهك كل الاتفاقات، ويحاصر أهل درعا لمايزيد عن شهر، ثم يبدأ قصفه للعزل المحاصرين، والذين لايمتلكون لمواجهته إلا إيمانهم بالله، وقضيتهم، وإرادتهم الصلبة التي أظهرت عمق وعيهم، وقوة صلابتهم، وقدرتهم وكل الشعوب المقهورة الواعية لإرادتها على مواجهة البغي، منطلقة من قناعة مفادها أنه لايحك جلد سوى ظفرك، وقد وجدنا خلال الأيام الخوالي المليئة بالقتل والقصف والعنف، أن الجميع قد تخلى عن شعبنا في درعا، وأن كل تصريحات الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية،لا تساوي شيئًا أمام الفعل الحقيقي لشباب أنقياء مؤمنين في درعا صمموا وما زالوا على مواجهة المعتدي، حتى لو خذلهم أهل الأرض قاطبة.
ورغم كل محاولات الروس الذين لم يؤازروا النظام بالطيران هذه المرة حتى الآن، لكنهم تواطؤوا معه وصمتوا على عدوانه، رغم ذلك مايزال أهل درعا يمتلكون الإرادة في التصدي والمقاومة الحقة، بسلاح فردي متواضع، وصولًا إلى إنجاز اتفاق جديد، لا يدفعهم إلى التهجير القسري مهما حصل. ومابرح الأهل في درعا في قمة العنفوان والصمود الأسطوري كما الشعب السوري على مدى عشر سنوات ونيف، ولسان حالهم ونجواهم وبوحهم يقول: لم يبق في معصمي إلا قليلاً من دمي، لم يبق في خلدي إلا عويل وبعده لا أعرف يا ولدي، لم يبق إلاه ومنه لحظة حساسة لا تنتهي ولم تئد. لا غرو أن ثائرنا تضيق به الروح وتتحدى به وعبره الوجود، وبعدها لا تحسد. لا ضير أن مايلفنا تنهد وحسرة وتجلد. لا لا لم يعد هناك مكان لفسحة كنا نظنها لا تنفد. لكنها نفدت وبانت عيوبها، واضمحلت قبل ذلك، وتكشفت هياكلها العظمية، وبات مافات، شيئاً من التاريخ، والماضي، البعيد والقريب. طحنوا كل شيء، وأيقظوا النائم من سباته، حتى ظننا أن لا عودة إلى الأنا الأعلى، ولسوف نستمر بالأنا دون توصيف. وغدونا نحو الشام يخنقنا الأسى، فوجدنا نهراً يفيض ياسمينًا، يفيض عشقاً أبدياً، ويطفح وطنية، ويغرورق دمعاً، حتى لا انقطاع فيه. في صبح ليس كأي إصباح، ادلهم النهار كما الليل، وامتلأ الجو صهيلاً، ثم عويلاً، وراح الهواء يمتلك إمكانية جديدة للقبض عليه، وهو الذي علمنا، أن لا أحد يمكنه ذلك.
في ذاك الصبح المتلبد ياسميناً، وفي ذاك الملكوت الهائم انفلاتاً، ينبثق البرعم الجديد من رحم المأساة، وتتفتح أزهار لم يكن في الخلد أنها ستتفتح يومًا، وتجتمع أنات، وآهات، وصرخات، حتى تشكل يمّاً من كل ذلك، فتغدو عنفواناً لا قدرة لأحد على مقاومته أو مقارعته. نراه يكبر ويكبر، وتتفتح تويجاته، فترسل للعالمين رائحة زكية. غاية في الروعة، تنعش القلب والروح والدنيا كلها. وبالرغم من هؤلاء القساة، العصاة، المتفرعنين، يعود للدنيا وجودها، وتخفق القلوب بنبضات دمشقية حورانية هيامية، لم ينتج الزمان مثيلاً لها، فتهدأ النفوس، وترتاح الأرواح الشهيدة، وتبعث من جديد، ومن داخل الأقبية المتعفنة، انبثاقات روح بل أرواح، وإطلالة شمس لابد آتية، وإشراقة صبح لا ضير مقبلة. وقبل أن تمسك الروح بالجسد، نسمع أنيناً بعيداً بعيداً لكنه آتٍ، وانبعاث ينجدل بالاخضرار. ليقول: ها أنا ذا قادم مهما طال الزمان، ومهما اختلفت مسارات الريح، فالأشرعة قد انفردت، وامتلأت بريح صرصر لا يمتلك أحد أية قدرة على كبحه أو الإمساك به . بهذا البوح السوري الحوراني، وعبر هذه النجوى العميقة، ومن خلال هذا الوعي الممتلك لذاته، والمصمم على الوصول إلى الصبح، قائلًا: أليس الصبح بقريب. مع الكثير من الوعي المطابق والعمل اليومي الدؤوب، ستنتصر ثورة الحرية والكرامة عاجلًا أم آجلًا، وعوا ذلك أم لم يعوه، أدركوا ذلك أم لم يدركوه.