صادفت جارًا لي في مدخل البناء الذي أسكن فيه، طالب سنة رابعة في كلية الشريعة، مدّ يده للسلام، فقلت له لا سلام بالأيدي للوقاية من فيروس كورونا، فأجابني: أنا أسلّم لأن الرسول قال لا يُعدي، وأضاف بعد هنيهة، إلا بإذن الله.. لا أعرف إن كانت إضافة بإذن الله منه أم من الرسول. قلت: بإذن الله نعم، لكنه يعدي؛ وقد انتشر في أكثر من مئة وخمسين دولة.. لم يتقبل كلامي ودخل بيته من دون تعقيب.
لم تكن هذه ردة الفعل الوحيدة المتداولة عن فيروس كورونا بين الناس، فقد وظفه مسلمون بالرد على بعض ما يواجهونه من ظلم وضعف وذل، بإخراج ما في داخلهم من ألم ومرارة وحقد على دول وقوى ورؤساء اضطهدوهم أو افتأتوا على حقوقهم وحرياتهم ومصالحهم، فاعتبره بعضهم، قبل أن يجتاح العالم بما في ذلك بلاد المسلمين، عقوبة إلهية للصين على ما فعلته بالمسلمين الإيغور، فـ “لله جنود لا ترونها”. واعتبره بعضهم ضربة للقوى الكبرى، وتحطيما لهيبتها لما تفعله بالدول والشعوب الضعيفة. وعندما اجتاح دولا إسلامية واجهوه بالصلوات والابتهالات والأدعية ومسيرات الرجاء تطلب الرحمة بالمسلمين برفع البلاء عنهم، وتخليصهم من هذا الوباء الخطير. وهناك من رفضوا قرارات الحكومات وقف صلوات الجماعة والجمع، في تصرف مرتبط بسيادة قناعات شعبية ومفاهيم اجتماعية عن الظواهر الطبيعية، الزلازل والبراكين والأوبئة، تعتبرها قدرا محتوما وغضبا إلهيا وعقوبة للبشر على ما فرطوا في جنب الله؛ واعتبار هذا الفهم من صُلب الدين، الإسلام في حالتنا.
وقد قاد انتشار فيروس كورونا إلى عودة النقاشات عن مغزى حصول المرض في ضوء إطلاق تفسيرات ومواقف بشأن تشكل الفيروس، وانتشاره وطرق علاجه؛ تربطه بقرار إلهي، ردا على انتشار الفسق والفجور والمثلية؛ وأخرى ترفض اعتماد الطب الحديث في علاجه، مطلقة حلولا وخيارات غاية في الغرابة مثل “عطر الرسول” الذي يستخدمه رجل الدين الإيراني، عباس تبريزيان؛ ولعق حديد أضرحة آل البيت الذي تعتمده الطريقة الشيرازية في إيران، وحمل الأحجبة وزيارة الأضرحة، كما هو شائع بين عوام المسلمين، علما أن رجال دين مسيحيين ويهودا وهندوسا تبنّوا مواقف مشابهة، أساسها ربط الإصابة بالمرض بالعقاب الإلهي، ومعالجتها بالصلوات والأدعية ووصفات تنسب إلى الأنبياء والقديسين، وشرب الهندوس في الهند بول البقر.
وفي حديث مع عجوز مسلم، شديد التدين، عن الفيروس والوقاية، وضرورة أخذ احتياطات جدية، رد عليّ قائلا: “قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا” (التوبة، الآية 51). توقفت مليا عند هذه الآية الكريمة، فهي متداولة بين عامّة المسلمين، يكررونها في مواجهة ما يحدث لهم، باعتباره من الله وقدره الذي لا يرد، ما يقود إلى إهدار قيمة إسلامية عظيمة، السببية، كما عبّرت عنها قرابة عشرة آلاف آية من الذكر الحكيم، مفادها بأن لكل شيء سببا مباشرا، يفيد أو يضر، ولكل حالة تصرّفا مناسبا لجلب المنافع ودرء المفاسد، ما يجعل تجاهل الأسباب المباشرة يتعارض مع الخط العام لروحية الإسلام، كما وردت في القرآن الكريم، فالمسلمون، عامتهم وكثيرون من خاصتهم، يتعاملون مع هذه الآية بدلالتها الظاهرة، من دون اعتداد بخلفيتها والهدف الحقيقي من ورودها: الدلالة على قدرة الخالق جل شأنه الذي سعى إلى تقريب كنهه للناس، عبر أسمائه الحسنى، كي يدركوا حقيقته وكينونته، فالآية تشير إلى قدرته على معرفة الغيب، وتسجيل ما سيحصل لنا لا التسبب به؛ لذا هي لا تلغي ضرورة الأخذ بالأسباب، ولا المساحة الكبيرة التي تركها الإسلام لوعي الإنسان وإرادته واختياراته ومسؤوليته، ضمن نسق كوني محكوم بقوانين عامة، تضبط حركته الكلية، وقوانين خاصة تضبط حركة كل نوع من مخلوقات الله وتميزه عن غيره، فالتصور الإسلامي لحركة الكون والإنسان قائم على وجود سببٍ لكل ما يحصل في الكون، الطبيعة والحيوان والإنسان، والتصرّف الصحيح يفترض من الإنسان، باعتباره الكائن الحر والواعي وصاحب الإرادة، الأخذ بالأسباب لدى التعاطي مع الطبيعة والآخر، لتحقيق أهدافه في حياة مستقرّة وآمنة، ما يجعل كل إنكار للسببية يتعارض مع روحية الإسلام، من جهة، ويقود، من جهة أخرى، إلى الفشل والخسران المبين، ولنا في قوله تعالى “فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران الآية 159) خير دليل وهاد حيث جاءت العزيمة، التفكير والأخذ بالأسباب للقيام بالعمل المطلوب وتحقيق المراد منه، أولًا والتوكل على الله تاليا. وهو ما أكده الرسول الكريم في توجيهاته لأصحابه؛ فعندما سأله بدوي جاء إلى المسجد للصلاة ومعه ناقة: أيهما أنسب ربطها مع الاتكال على الله أم تركها دون وثاقٍ مع الاتكال على الله؟ فكانت إجابته: اعقلها وتوكل، وتوجيهه أصحابه “إذا سمعتم به، الحديث عن وباء الطاعون في ذلك الوقت، بأرض فلا تُقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه”.
اختلف المسلمون الأوائل في فهم روح الإسلام ومنهجه، وانقسموا إلى “جبرية” و”قدرية”، في “ضوء وجود آياتٍ تجزم بأن لا يد للإنسان بما يحصل له وحوله “وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ” (الصافات الآية 96) و”وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ” (التكوير الآية 29) و”خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ” (البقرة الآية 7)، وأخرى تجزم بحريته ومسؤوليته “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا” (الإنسان الآية 2 و3) و”أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ” (البقرة الآية 7 و8) و”الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ” (غافر الآية 17) و”كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ” (الطور الآية 21) و”وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ” (يس الآية 54).
ولمّا كانت الآيات جميعها ملزمة للمسلمين، ما يفرض الأخذ بها وإعمال العقل وتقليب النظر لفهم محتواها وإدراك العلاقة بين الحكمين، وتشكيل صورة دقيقة بالكشف عن تداخلها وترابطها وتحديد التخوم والأدوار والمسؤوليات، وتقنين الممارسة والتصرف، وتوجب على المسلمين البحث والتفكر في الأمر. وقد دفع التفكير الموضوعي علماء من المسلمين إلى قراءة الآيات التي تجزم بدور الله بربطها بخلق الكون وما فيه وضبطه بقوانين، يسميها القرآن الكريم سننا أو نواميس، لتحكم كل شيء من دون أن تتبدل، ما يجعل الله خالق كل ما يحدث في الكون، بما في ذلك فعل الإنسان في ضوء انضباط فعله بالقوانين الكلية والنوعية التي خلقها الله، وقراءة الآيات التي تجزم بدور الإنسان ومسؤوليته بالقيام بذلك استنادا إلى قانون الإنسان الخاص في إطار القوانين الكلية وحكمها، ما يجعله خالق أفعاله، ومسؤولا عن نتائجها وتبعاتها. وقد اتضح هذا التصور أكثر فأكثر، بفعل التطور العلمي، وتنامي المعارف وتنوع مناهج البحث فاستقر تحديد روحية الإسلام على: قوانين كلية تحكُم الأشياء والظواهر، وقوانين خاصة لكل نوع، وفعل الإنسان مشروط بالقوانين الكلية، وحريته مرتبطة فيها، وقدرته على الفعل مرهونة بإدراكها وتوظيفها واستخدام قانونه النوعي. فنظرة الإسلام إلى فعل الإنسان قائمةٌ على الترابط مع الكون والقوانين الناظمة، من سنن أو نواميس، وفعله ودوره محكوم بالقوانين الكلية التي تحكم الكون بكل تفاصيله، وممارسة حريته مشروطة بالانضباط بالقوانين الكلية، وحتميتها الراسخة التي يدل عليها انضباط نظام الكون بقوانين حاكمة وثابتة؛ كما ورد في آياتٍ كثيرةٍ قررت وجود نظام للكون وقوانين حاكمة، “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً” (الأحزاب 62) وثبات هذه القوانين “سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا ۖ وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا” (الإسراء، الآية 77) و”وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا” (فاطر الآية 43)، ما يعني وجود حتمية كونية، يعيش الإنسان تحت سقفها، ويمارس حريته في إطارها، وأن كل سلوكٍ لا يلتزم بها يتعارض مع تعاليم الإسلام ومع إرشاد الرسول، “اعقلها وتوكل”، ما يستدعي عدم الركون إلى هذه الممارسات الساذجة، وعدم إراحة النفس بالتسليم بأنها قدر، فالله أعطانا العقل، وأرشدنا عبر أنبيائه وكتبه ورسله إلى الأخذ بالأسباب في مواجهة الظروف؛ ولتحقيق أهدافنا في الحياة؛ وحذّرنا من تبعات عدم القيام بالتصرف الصحيح، ناهيك عن عدم التصرّف مطلقا، قال تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا” (النساء الآية 97). فالذي لا يقوم باللازم لمواجهة المشكلات التي تعترضه في حياته، خصوصا مقاومة الظلم والظالمين، يخسر مرتين: ذل في الحياة وعذاب في الآخرة.
المصدر: العربي الجديد