لم تكن الكارثة التي ضربت لبنان في الرابع من أغسطس/ آب العام 2020، مجرد انفجار محلي محصور بتداعياته السياسية ونتائجه الإقتصادية التدميرية في بلد مُفلس يعيش في قعر الهاوية. فقد لامست أصداء هذا الانفجار أبرز عواصم العالم ومن بينها برلين التي دعمت مبادرة الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون لإصلاح بلد يئن ألماً تحت ضربات المفسدين والمجرمين الذين يعيشون في عالم آخر.
ألمانيا التي تحركت بعد بضعة أشهر من الكارثة مقترحة إعادة إعمار المرفأ الذي طالما كان محطة لنزول ملايين الأطنان من البضائع والسيارات والآلات الألمانية الضخمة، فيما كانت المستشارة أنغيلا ميركل، قد أعلنت استعدادها لمساعدة هذا البد الجريح وأرسلت فريق إنقاذ إلى بيروت، حيث طالت شظايا الانفجار رعايا لبلادها وسفارتها ومركزها الثقافي، إذ أُصيب نحو ثمانية ألمان.
قيادة جاهلة وأنانية
على الجانب الآخر انشغلت وسائل الإعلام الألمانية بهذا الحدث على مدى أسابيع وحتى الآن، عبر موضوعات وتحقيقات ميدانية من بيروت ومقابلات وتحليلات لم يستبعد بعضها أي علاقة لــ”حزب الله” بما جرى. بيد أن عضو البوندستاغ عن حزب الخضر، أوميد نوري بور رأى بأن انفجار بيروت، “لم يكن مجرد حادث”، وأن لبنان “ليس سيئ الحظ؛ بل إن التطورات الدراماتيكية في الأشهر القليلة الماضية هي نتيجة سنوات من سوء الإدارة والفساد الذي تمارسه نخبة سياسية تتكون من أمراء الحرب الأهلية الذين ليس لديهم سوى مصالحهم الخاصة”، بحسب ما جاء في مقال أعده بالاشتراك مع الناشطة الألمانية من الخضر جنان عثمان. المقال الذي نشرته صحيفة “فرانكفورتر ألغيماينه” واسعة الانتشار، في 17 أغسطس/ آب بعيد الانفجار، شدّد على وصول الأموال إلى أيدي السكان المدنيين بدلاً من جيوب السياسيين. وختم: “لم يكن الانفجار مصادفة، بل كان نقطة ضعف لفشل منهجي لقيادة جاهلة وأنانية”.
ذراع إيران الطويلة
وفيما ركّزت معظم التحليلات على الفساد والإهمال كسببين من أسباب عدم إزالة كمية كبيرة من نيترات الأمونيوم من المرفأ، بدا الحديث عن وقوع هجوم عسكري إسرائيلي ضعيفاً، لكن الصحافي في “دويتشه فيله”،كيرستن كنيب، تطرق إلى دور مُفترَض لـ “حزب الله” في هذه الكارثة، حيث كتب مقالاً في 21 أغسطس/ آب نشره موقع المؤسسة الإعلامية الرسمية بعنوان “بيروت، حزب الله.. وذراع ايران الطويلة” ذكر فيه أنه “لا تزال مسألة مسؤوليتهم (المشتركة) عن الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت، مفتوحًا”. ونقل عن يومية “دي فيلت” أن لديها معلومات استخباراتية تفيد بأن الحزب الشيعي تلقى “كميات كبيرة” من نترات الأمونيوم (630 و 670 طنًا) في عامي 2013 و 2014 – أي خلال الفترة التي تم فيها تخزين 2750 طنًا منها في الميناء، انفجرت في 4 أغسطس/ آب، وتم دفع مليار ريال إيراني من ثمنها.
وفقًا لـصحيفة “Die Welt” الرصينة، تولت “سرايا القدس” التابعة للحرس الثوري الإيراني عملية النقل مع إحدى شركات الطيران الإيرانية الخاصة التابعة للحرس الثوري.
وإذ أكد الصحافي أنه من غير الواضح حاليًا ما إذا كانت نترات الأمونيوم التي طلبها “حزب الله” كانت جزءًا من المخزون الذي انفجر في ميناء بيروت، رأى انه إذا كانت المعلومات الاستخباراتية التي نشرتها الصحيفة الألمانية صحيحة، فسيكون ذلك إشارة إضافية على العلاقة الوثيقة بين حزب الله وإيران ويمكن أن يضع الميليشيات الشيعية في لبنان تحت ضغط شعبي إضافي”.
خبير أمني غربي أفاد “دي فيلت” أن المعلومات المتوفرة تتطابق مع تعامل “حزب الله” مع نترات الأمونيوم، “رغم أن المادة تباع بشكل مفتوح في الأسواق، إلا أن الحرس الثوري الإيراني قد يكون اختار أن يزود بها حزب الله بشكل سري حتى لا يثير الشبهات، لأن الأمر يتعلق بكمية ضخمة جداً، وكان من شأنها أن تثير الشكوك. وتوقع أن تكون حاجة الحزب لهذه المادة من أجل استخدامها في القتال في سوريا، أو لشن هجمات على إسرائيل. وهذا ما أكدته تقارير عديدة في ما بعد.
الطائفيّة والإنهيار
كذلك، نقل كنيب عن رئيس مكتب مؤسسة هاينريش بُل في بيروت، يواكيم بول، قوله في مقابلة مع”DW”. أن “حزب الله يواجه انتقادات لاذعة حالياً، بما أنه يسيطر على أجزاء من الميناء والمطار، لكنه يؤثر على الطبقة السياسية في البلاد ككل”.
بول رأى أن التقارب بين الحزب وإيران يكرّس الطابع المذهبي للنظام السياسي في لبنان”.
“أعمال التلحيم”
في السياق، رجّح خبير المتفجرات فولفغانغ سبيرا (من جامعة براندنبورغ للتكنولوجيا في كوتبوس) وجود مواد أخرى كانت إلى جانب نترات الأمونيوم، قائلاً لصحيفة “إكسبرس” : “ليس فقط نترات الأمونيوم قد انفجرت. هذه السحابة السوداء التي يمكن رؤيتها في التسجيلات لن تُفسرها نترات الأمونيوم وحدها.. ربما كانت مواد ناريّة مخزنة هناك. يمكن اشتعال كلتا المادتين أثناء أعمال التلحيم، على سبيل المثال”.
قضية روسوس الغامضة
في موازاة ذلك، كانت صحيفة “دِر شبيغل” الشهيرة، تقوم بتحقيق موسّع عن قضية توقيف سفينة روسوس “الغامضة” التي كانت تنقل نترات الأمونيوم ودور “حزب الله” فيها. خلُص هذا التحقيق الذي شارك فيه الصحافيون مكسيميليان بوب، كريستوف رويتر وفريتز شاب، إلى أن سبب انفجار ميناء بيروت، كان له صلات مباشرة مع مصرف يتعامل معه “حزب الله”.
وكشف أن سفينة روسوس مملوكة لرجل أعمال قبرصي وليست كما كان يُفترض في البداية، لرجل أعمال روسي. وأظهرت سجلات قانونية أن الرجل حصل على قرض بمليون دولار من بنك”FBME” التنزاني، الذي اتهمه مكتب التحقيقات الفدرالي الأميركي بالعمل في غسيل أموال لـ”حزب الله” اللبناني. ونقلت “دِر شبيغل” عن أحد المحققين، أن للبنك التنزاني سمعة سيئة، لأنه يجبر على سبيل المثال، المدينين المتعثرين على تقديم خدمات لعملاء مثل “حزب الله”. أما رجل الأعمال الروسي إيغور غريتشوشكين، فلم يقم سوى باستئجار السفينة.
“البلد الرهينة”
قناة “أرتي” الألمانية الفرنسية عرضت برنامجاً وثائقياً تحت عنوان “لبنان ـ البلد الرهينة”، أكدت فيه أن “حزب الله” بات يسيطر على كامل نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في لبنان. وأنه لا يمكن لأي قرار أن يُتخذ هناك من دون موافقة الحزب. “في البلد المتعدد الطوائف هناك نظام دقيق يضمن التوازن بين مختلف الطوائف بعد الحرب الأهلية. غير أن هذا التوازن مال بشكل كامل للحزب الشيعي الذي بات أقوى حتى من الجيش اللبناني، إذ يملك ما لا يقل عن 25 ألف مقاتل و120 ألف صاروخ حسب تقديرات متطابقة”.
دولة المافيا
وفي السياق انتقد خبير شؤون الشرق الأوسط مايكل لودرز، خلال محادثة مع الاذاعة الألمانية “Deutschlandfunk”، الطبقة السياسية الفاسدة في لبنان، قائلاً: “تتمثل الفضيحة في حقيقة أن هذه الكمية الهائلة لم يتم تخزينها بشكل صحيح”.
ويرى أن الحكومة لا تستطيع أن تفعل شيئاً تجاه ما حدث، “وإلا فسيتعين عليها الاستقالة بشكل جماعي والذهاب إلى المنفى.. القيادة السياسية في لبنان هي مزيج غريب من الدولة الإقطاعية والهياكل الشبيهة بالمافيا. نفس السياسيين الذين قادوا البلاد اقتصاديًا إلى الهاوية شنوا حربًا ضد بعضهم البعض من 1975 إلى 1990. ولم يُحَاسب أحد على ذلك”.
لبنان وطريق الحرير
في المقابل، كان للكاتب ديرك بولمان مقاربة مختلفة، إذ تناول إمكانية أن تكون إسرائيل خلف هذا الحدث بسبب موقع لبنان الجيو-ستراتجي، وأهمية مرفأ بيروت على طريق الحرير الصيني. مشيراً في مقال نشره موقع “Ken FM” الإلكتروني، في 18 أغسطس/ آب 2020، إلى خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 27 سبتمبر 2018 ، حين عرض لوحة مصورة لميناء بيروت مع مخازن أسلحة مزعومة لحزب الله تظهر بالضبط الجزء الذي تم تدميره الآن من الميناء وهدد ايران بأنه لم يسمح لها بتجاوز الخطوط الحمر.
ونقل أن مصادر غربية رفيعة المستوى ذكرت لصحيفة “آسيا تايمز”، أن طائرات استطلاع غربية كانت تحوم فوق الساحل اللبناني لحظة الانفجار، معتبراً أن فرضية ضربة عسكرية اسرائيلية للمرفأ تدعم الاستراتيجية الأميركية الجديدة في عهد ترامب، والتي يتفق فيها مع جو بايدن، وهي عرقلة أو تدمير طريق الحرير الجديد كلما أمكن ذلك وتنفيذ الحرب الباردة الجديدة والفصل التام عن الصين. ويشير في هذا السياق ألى ان لبنان قد انضم بالفعل إلى بنك التنمية الآسيوي، الذي تم إنشاؤه لتمويل طريق الحرير الجديد.
ويشير إلى أهمية ميناء بيروت الذي كان من أهم الموانئ البحرية على طريق الحرير البحري.
وينتقد ما يسميه بالصمت الإعلامي عن دور إسرائيل في ممارسة “مكارثية جديدة” واسعة الانتشار تجاه خصومها، مشيراً إلى وسائل إعلام الشركات الأميركية ، التي “هي في الأساس أداة دعاية لغرب عنيف بشكل متزايد يعتبر الديموقراطية قد عفا عليها الزمن ويعمل على تحويل العالم إلى مناطق حكم إقطاعية جديدة ورأسمالية تحت المُراقبة”.
وفي صحيفة “دي تسايت” كتبت ليا فريسيه، أن انفجار بيروت كان “أكثر من مجرد حادث. إنه أيضًا أكثر من مجرد إهمال. إنه تعبير عن دولة مرهقة للغاية في العقود الأخيرة لدرجة أنها توقفت منذ فترة طويلة عن حماية مواطنيها، لكنها عرضّتهم للخطر”.