لم يصدر عن موسكو بعد ما يشيح الضباب عن حقيقة موقفها من الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية، بعد أن تولى المركز الروسي للمصالحة السورية الأسبوع الماضي، ولثلاث مرات متوالية بدلا من الجيش السوري، الإعلان عن صد هجمات الطيران الإسرائيلي على سوريا، وبمساعدة العسكريين الروس الذين تولوا الإشراف المباشر على عمليات الرد. ما أثار التكهنات والتخمينات حول التصعيد في موقف موسكو من الغارات الإسرائيلية لم يقتصر على تولي المركز فقط أمر الإعلان عنها، بل ما أثارها أكثر هو نجاح عمليات التصدي للصواريخ الإسرائيلية على قول المركز نفسه، وهو ما شكل الدليل الأقوى على احتمال تصعيد في الموقف الروسي. فقد جرت العادة في السابق أن تصمت موسكو عن هذه الهجمات، أو تعلن إمتعاضاً خجولاً، ويعلن الجانب السوري عن “نجاح” التصدي للغارات الإسرائيلية وتدمير كافة الصواريخ الإسرائيلية، وهو ما كان يعرف الجميع أنه كلام لم يعكس يوما حقيقة الواقع على الأرض.
لكن هاتين الحقيقتين الجديدتين في واقع الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية منذ العام 2013، لم تلقيا إهتمام أحد، ولم تلفت الإنتباه إليهما وزارة الدفاع الروسية. إلى أن جاءت مقالة مراسل “الشرق الأوسط” في موسكو في 24 من الشهر الجاري واستند فيها إلى “مصدر روسي مطلع”، ليستنتج أن “موسكو تصعد تحركها ضد الغارات الإسرائيلية على سوريا” وتعزز الدفاعات الجوية السورية بمعدات حديثة وخبراء روس.
انطلقت بعد المقالة مواقع الميديا في العالم وفي روسيا نفسها لتبني على ما جاء فيها من أن موسكو تغير موقفها من الغارات الإسرائيلية وتتشدد في التصدي لها وتتولى الأمر بنفسها، بل وتقفل الأجواء السورية بوجه الطيران الحربي الإسرائيلي. على أن هذه المواقع، وكل منها لأسبابه، وضعت إستنتاج مقال “الشرق الأوسط” عن التصعيد في موقف موسكو في خانة التوقعات والتخمينات طالما لم يصدر ما يؤكدها من الجانب الروسي. وتركت موسكو جميع هذه التخمينات معلقة بين التصديق والتكذيب، ولم يصدر عنها ما يجلي حقيقة موقفها. بل يبدو أنها تتعمد إغراق كل ما يقال بضباب كثيف يترك لها حرية المناورة مع إسرائيل والنظام السوري واللاعبين الآخرين، وإستثمار الغموض إلى اقصى حد ممكن. وتترك لنفسها في الوقت ذاته حرية إختيار اللحظة لتكشف عن حقيقة الموقف الذي باتت تعتمده حيال غارات إسرائيل. لكن مهما كان هذا الموقف الذي ستعلنه موسكو، يبقى من المؤكد أنها سوف تفصل بين هذه العلاقة المستجدة المتشددة، إن كانت فعلاً كذلك، من الغارات على سوريا وبين علاقتها الوطيدة مع إسرائيل. فقد سبق أن مرت العلاقة الروسية الإسرائيلية بامتحان قاس في خريف العام 2018، حين اتهمت روسيا إسرائيل بالتسبب بإسقاط طائرة إستطلاع قرب اللاذقية كان على متنها 15 عسكرياً روسياً. وعلى الرغم من غضبها الشديد حينها ورفضها الأخذ بكل محاولات إسرائيل تبرئة نفسها من المسؤولية عن سقوط الطائرة ومقتل العسكريين الروس، لم تفرط موسكو بعلاقتها مع إسرائيل، وما لبثت أن طوت صفحة القضية واستقبل بوتين في موسكو صديقه بنيامين نتنياهو. ولن تنتهي الأزمة الحالية بين البلدين، في حال تشددت موسكو فعلاً في تعاملها مع الغارات الإسرائيلية على سوريا وأقفلت الفضاء السوري بوجه الطيران الحربي الإسرائيلي، على غير ما انتهت إليه أزمة خريف العام 2018.
إذا كان الإعلان المتكرر للمركز الروسي للمصالحة في سوريا عن الغارات الجوية الإسرائيلية على سوريا، والنجاح الفعلي، على قول المركز، في تدمير الصواريخ الإسرائيلية يعني فعلاً تغييراً روسياً في التعامل مع هذه الغارات، فلن ينتهي الأمر على غير ما انتهى إليه أيضاً مع تركيا خريف العام 2015، حين أسقطت تركيا القاذفة الروسية على الحدود مع سوريا. فقد تجهم بوتين بوجه إردوغان لبضعة أشهر حينها، ومنع إستيراد البندورة من تركيا، ثم ما لبثت العلاقات أن عادت إلى طبيعتها بعد “رسالة الإعتذار” من إردوغان التي قيل يومها أن بوتين طلبها منه.
علاوة على تشكيك المواقع الإسرائيلية في ما ورد على لسان “الخبير الروسي المطلع” في نص “الشرق الأوسط”، كانت النقطة التي أثارت إهتمام الإسرائيليين هي أن الروس اتخذوا قرار تصعيد موقفهم هذا بعد أن لمسوا في المفاوضات القائمة مع الأميركيين عبر قنوات التواصل الخاصة بعد القمة الأميركية الروسية عدم ترحيب الولايات المتحدة أيضاً بالغارات الإسرائيلية على سوريا. وحسب المواقع الإسرائيلية الناطقة بالروسية أو المترجمة إليها ترددت أصوات إسرائيلية مطالبة بأن يطرح وفد مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت الذي يصل الأحد إلى واشنطن ، مع الأميركيين مسألة تغيير موقف روسيا من الغارات الإسرائيلية على سوريا، ويحاول إقناعهم بان مثل هذا التغيير في الموقف الروسي سوف يرسخ مواقع إيران في سوريا.
في تواصل ل”المدن” مع الكاتب السياسي في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة “NG” الروسية إيغور سوبوتين سألناه عن رأيه في التغيير المفترض في الموقف الروسي من الغارات الإسرائيلية على سوريا. والكاتب لا يشكك للحظة في صحة ما جاء على لسان مصدر “الشرق الأوسط” الروسي، بل نشر نصين في الأيام الأخيرة مبنيين على الأخذ كلياً بما قاله “المصدر الروسي المطلع”. وعنون نصه الأول في 25 من الشهر الجاري بالقول”إسرائيل جعلت كأس الصبر الروسي في سوريا يطفح”، وعنون الثاني في 28 الشهر بالقول “إسرائيل فوجئت بالإستياء الروسي”، وأضاف “يريدون إشراك واشنطن في الجدال بشأن السماء السورية”.
قال سوبوتين بأنه يعتقد أن روسيا، بعد الإنتخابات الرئاسية السورية، معنية بالتركيز أكثر على سيادية المناطق التي يحكمها النظام. فالغارات الجوية الإسرائيلية لا تشوه هذه الصورة فحسب، بل وتخلق أيضاً الإنطباع وكأن التقنيات الروسية لا تعمل. وقد تعبوا في وزارة الدفاع من السماع بأمر هذا الإنطباع المشوه عن السلاح الروسي.
ومن غير المستبعد برأيه أن يكون المسؤولون الروس قد قرروا أن مجيئ حكومة جديدة في إسرائيل سيسمح بمناقشة قواعد جديدة للعبة. وبالنسبة لحكومة بينيت ولبيد ، من المهم للغاية الآن عدم تفويت اللحظة وإيجاد طريقة ما للتفاوض بالتفصيل مع روسيا.
ويقول بأنه لا يتوقع تصعيداً أو إحتكاكا” شبيها” بما وقع العام 2018، ومن الأفضل أن تخفف موسكو من درجة التوتر في محيط الحدود السورية، إذ من شأن ذلك أن يتيح إمكانية الدفع إلى الأمام وسط اللاعبين الإقليميين بفكرة ضرورة وقف عزلة نظام الأسد والإستعادة التدريجية لطرق المواصلات مع سوريا، الأمر الذي سيتعين على روسيا في وقت ما أن تهتم به.
ولا يستبعد سوبوتين أن تعمد الحكومة السورية ومعها طهران إلى دفع موسكو للضغط على إسرائيل. لكن براغماتية موسكو بشأن ضربات الجيش الإسرائيلي، هي برأيه أمر مختلف كلياً عما تنتظره دمشق وطهران.
المعلق السياسي في وكالة نوفوستي بيتر أكوبوف قال ل”المدن” بأنه ليس من معلومات رسمية حتى الآن، لكن المعلومات غير الرسمية تشبه الحقيقة. وإذا كان الأمر كذلك، يمكن فقط الترحيب بتشديد الموقف الروسي. فقد تحملت روسيا طويلاً الهجمات الإسرائيلية المتسترة بالتهديد الإيراني “المتخيل” لإسرائيل. وكان هذا التحمل مرتبطاً إلى حد كبير بالعلاقات الشخصية بين بوتين ونتنياهو، أي بتلك اللعبة التي يمارسها الزعيم الروسي على الإتجاه الإسرائيلي. والآن حين لم يعد نتنياهو رئيساً للوزراء، لم تعد قائمة وعود بوتين غير الرسمية، وستعمد روسيا تدريجيا لتشديد موقفها من الضربات الإسرائيلية. إضافة إلى أن عملية تعزيز السلطة السورية تتسارع وتيرتها، وهذا أيضاً يحد برأيه من حرية حركة إسرائيل على الإتجاه السوري.
المصدر: المدن