يأتي التصعيد الأخير على منطقة جبل الزاوية ضمن استراتيجية النظام السوري القديمة المتجددة، والتي كان لافتاً تزامنها مع انعقاد جولة أستانة السادسة عشر في 7 حزيران/يونيو، حيث اعتاد النظام منذ الجولة الأولى لهذا المسار الذي كان له كبير الأثر على تراجع الثورة السورية وانحسار مناطق نفوذها وسيطرتها، على التصعيد العسكري وقضم المزيد من المناطق وتهجير أهلها، حتى وصل الى حدود إدلب، متوقفاً عند محيط جبل الزاوية، هذه المنطقة الاستراتيجية ذات الطبيعة الجغرافية القاسية، والبنية الثورية القوية الصلبة التي يمثلها أبناء المنطقة، والتي تمتاز بثبات المقاتلين من أبنائها أكثر منه فصائلياً، ما يجعل من أي محاولة للنظام اقتحامها بشكل مباشر خطراً كبيراً عليه.
وتسعى جميع الأطراف المتنازعة للسيطرة على جبل الزاوية، الذي تكمن أهميته الأساسية في إشرافه المباشر على الطرق الدولية، وإطلاله على سهل الغاب، فسيطرة النظام عليه تعني السيطرة على الطريق (إم-4) والتهديد المباشر بالوصول الى معبر باب الهوى، ومن جهة أخرى السيطرة على سهل الغاب وصولاً الى جسر الشغور والكبينة في جبال الساحل، وبالتالي سقوط هذا الجيب الهام الذي استعصى على قوات النظام وحلفائها في عشرات المحاولات لاقتحامه.
وبشار الأسد الذي سار عل نهج والده في تصدير الأزمات الداخلية إلى الخارج، يسعى بعد مسرحية الانتخابات الهزلية، وتوقف جبهات القتال، إلى الهروب من الاستحقاقات تجاه ما تبقى من سكان في مناطق سيطرته، وخاصة الموالين الذين وقفوا إلى جانبه في حربه المدمرة ضد الشعب السوري، وفقدوا أبناءهم دفاعاً عن بقائه على كرسي الحكم المعمد بدماء السوريين، لذا فإن الخيار الأمثل للنظام في ظل هذه الظروف وعجزه عن تأمين متطلبات الحياة والخدمات للشعب، الاستمرار في الحرب وإشغال الناس بذريعة الدفاع عنهم وحمايتهم من التهديد الوجودي من قبل (الإرهابيين) المدعومين من تركيا، ودول الخليج، وإسرائيل والامبريالية العالمية، وتعزز له هذه النظرية الغارات الإسرائيلية الاستعراضية بين الفينة والأخرى، التي تساند تدعم موقفه أمام جمهور المقاومة والممانعة.
وتزامن هذا التصعيد مع تصريحات مساعد وزير الخارجية الأميركية جوي هود بأن بلاده لا تسعى لإسقاط النظام ولكن تهدف لتغيير سلوكه، وهو موقف قديم يتكرر وكأنه رسالة تطمين يفهمها النظام جيداً، فهو يعي تماماً أن الخطوط الأميركية الحمراء ليست سوى تصريحات إعلامية، والرادع الدولي غير موجود في ظل الدعم الروسي الصيني الذي أكدته زيارة وزير خارجيتها قبل أيام إلى دمشق، بالإضافة إلى ترقب تركي يشجعه أكثر.
إذا اردنا دراسة الحالة عسكرياً، وهي انعكاس للحالة السياسية والتفاهمات المتشعبة والمعقدة، نجد أن الجيش التركي زاد من حجم قواته بعد سحب نقاط المراقبة وتحويلها الى شبه قواعد عسكرية قتالية، ولكن الواضح أن هذه القوات ليس لديها استراتيجية هجومية، بدليل أن الطيران التركي لا يستطيع الدخول غلى هذه المناطق، والحالة الوحيدة التي دخل فيها الطيران المسير (بيرقدار) في عملية درع الربيع في شباط/فبراير 2020، عندما قصفت طائرات النظام نقطة المراقبة التركية في قرية إبلين في جبل الزاوية وقتلت 32 من الجنود الاتراك، وكان دخول تلك المسيرات بالتنسيق مع الجانب الروسي وبموافقته.
حتى الاستراتيجية الدفاعية للقوات التركية تُعتبر منقوصة، فلا يمكن للجيوش المنظمة أن تبني استراتيجية هجومية أو دفاعية بدون غطاء جوي.
ما سبق لا يعني أن النظام وحلفاءه، الذين لديهم هدف نهائي هو الوصول إلى معبر باب الهوى، والسيطرة على الطرق الدولية للتحكم بالمساعدات الإنسانية وتحريك عجلة الاقتصاد وإنعاش النظام، يرون تحقيق ذلك سهلاً.
وعليه، فإن المؤشرات العسكرية لهذا التصعيد لا توحي بالاستعداد لمعركة هجومية لاجتياح المنطقة، رغم عدم انتفاء نوايا النظام والروس الذين دائما يطالبون باستعادة سيطرة النظام على كامل الأراضي السورية، فمؤشرات المعركة الهجومية تبدأ بالتمهيد الناري (المدفعي، الصاروخي، الراجمات، الطيران)، على الحد الأمامي المعادي وتدمير لا يقل عن 50 في المئة من تحصيناته، ومع بدء الهجوم ينتقل القصف باتجاه العمق من 3 الى 9 كيلومتراً، بينما ما نشاهده في هذه الحملة هو استهداف لمنازل المدنيين، ومراكز الدفاع المدني، وقتل النساء والأطفال، بقذائف روسية موجهة بالليزر من نوع (كروسنبول)، يحتمل أنها تحوي وقوداً نووياً مستنفذاً، نظراً لحجم تدميرها الكبير، في رسائل ضغط واضحة على الشريك التركي، ولتأليب الحاضنة الشعبية وجمهور الثورة على تركيا، وعلى الفصائل المقاتلة، وتوجيه الغضب عليهم بدل أن يكون ضد الروس والنظام.
وبالإضافة إلى ما سبق، فإن الهدف هو الضغط أيضاً من أجل تطبيق بروتوكول 5 آذار/مارس 2020، بين الرئيسين التركي والروسي بما يخص المنطقة العازلة منزوعة السلاح بعمق 6 كيلومتر شمال الطريق (إم-4)، و 6 كيلومتر شماله، وتسيير الدوريات المشتركة، وفتح الطرق التجارية، حيث اقترح الجانب الروسي قبل خمسة أشهر فتح ثلاثة معابر داخلية (سراقب، ميزناز، أبو الزندين) بين المناطق المحررة ومناطق سيطرة النظام، لم تستطع تركيا فتحها نتيجة احتجاجات شعبية عارمة رافضة لذلك.
وبسبب تعقيدات المعركة المحتملة في هذه المنطقة، فإن الخشية هي أن يكون الطبل في جبل الزاوية والعرس في جبال الساحل، فالنظام خلال الأشهر الثلاثة الماضية استطلع جبهات المنطقة الساحلية بشكل دقيق، لأنه رغم طبيعتها الجبلية الوعرة إلا أن اجتياحها يبقى أقل كلفة على النظام من جبل الزاوية، الذي يعني اجتياحه التصادم المباشر مع الجيش التركي الموجود بكثافة على الخط الأمامي الأول على بعد 1- 3 كيلومتر، فيما يقتصر وجوده في جبهة الساحل على نقطتين هما (البرناص، بداما) اللتان تعتبران خطاً ثانياً، ومصلحة الروس استكمال إبعاد الفصائل عن قاعدة حميميم، والتخلص من شبح التهديد الدائم بقصفها بالمدفعية أو صواريخ غراد.
فالقصف والتصعيد على قرى وبلدات جبل الزاوية، ولكن المؤشرات تتجه نحو جبهة الساحل التي قد تكون الهدف من هذا التصعيد، خاصة إذا أخذنا بالاعتبار الحملة التي تقوم بها هيئة تحرير الشام لتفكيك بعض الجماعات السلفية التي ترابط هناك (أجناد الشام التي يقودها مسلم الشيشاني المطلوب لروسيا)، (أجناد القوقاز بقيادة عبد الملك الشيشاني)، (أنصار الإسلام بقيادة أبو حسن العراقي)، ما يعني إضعاف الخط الدفاعي عن المنطقة، وتفكيك منظومات الدفاع.
الجانب التركي الذي يحضّ الفصائل على الاستعداد لكافة الاحتمالات، من غير المتوقع أن يجازف بأي مغامرة في ظل الصمت الدولي والأميركي تحديداً، الذي يبدو أنه مرتاح لما يجري، وليس لديه مانع من توجيه صفعة روسية لتركيا تعيدها الى حضن الناتو، وهو ما يجعل الأتراك شديدي الحذر في هذه المرحلة.
لم تتغير استراتيجية النظام وحلفاؤه الروس والإيرانيين على مر السنوات الماضية بخرق كل اتفاقيات وقف إطلاق النار، منذ مبادرات المبعوث الدولي كوفي عنان التي كان يطلقها لوقف إطلاق النار في الأعياد، الى الضرب بعرض الحائط كل اتفاقيات خفض التصعيد التي أبرمتها الدول الراعية لمسار أستانة، وسوتشي، ومذكرة التفاهم بين الرئيسين التركي والروسي.. حالة باتت مفهومة للثوار والمعارضة، لكن فهم الحالة لا يعني احتواء مخاطرها، بقدر ما يوجب الاستعداد لكل احتمالاتها.
المصدر: المدن