هو العيد وسنحتفل وفي فمنا ماء، ولكننا سنحتفل. نحن نشهد هزيمة ماحقة لليسار العربي من المحيط إلى الخليج، وسنغفل مؤقتا أن في الخليج العربي النفطي منه بالخصوص يسارا مؤمنا باليسارية (رحم الله جبهة ظفار في السلطنة)، ولكنها العبارة تستقيم لنا في طقوس الاحتفال المبكر بهزيمة اليسار العربي.
اليسار العربي وشقه القومي العروبي المضطرب بين المحافظة الدينية واليسارية السياسية سيتحمل في قادم السنوات كلفة عطش مصر، تلك كلفة إسناد الانقلاب العسكري على الديمقراطية الناشئة في مصر. سيتحمل اليسار العربي كلفة خراب سوريا التي تخفى نظامها تحت ستار الممانعة وباع سوريا للروس، وسيتحمل اليسار العربي كلفة تخريب الديمقراطية في تونس، وسنفصل قدر ما تسمح لنا ورقة بمساحة محدودة.
كلفة تخريب الديمقراطية
الوعد الديمقراطي سابق على الربيع العربي، ولكنه انبثق كفجر جليّ مع ثورة الشباب الذي نشأ خارج الأيديولوجيا اليسارية والقومية. لقد تحركت الشوارع العربية مؤمنة بمستقبل جديد يبنى عبر الصندوق الانتخابي، وقدمت براهينها على نضج سياسي لم يرد في كراسات اليسار العربي القديمة، وأعلنت نهاية الاستئصال السياسي الذي هو معركة مزيفة خلقتها الأنظمة وعاشت منها، ومولت لغاياتها الاستئصالية الفاسدة اليسار وفسحت له الطريق ليدفع معركة الاستئصال إلى مداها الأقصى، ويقبض ثمن خدمة الدكتاتوريات. وليحذر كل معترض على قولي فأنا شاهد على حقبة ابن علي ومبارك.
لم يفهم اليسار ما جرى، أو لعله فهم وأصرّ على المعركة نفسها ودفع فيها بكل قوته، وكان ذلك من غبائه لا من إيمانه بنظرية ثورية. انحاز اليسار العربي في تونس إلى فلول نظام ابن علي، وخدم الباجي قائد السبسي على أمل أن يقدم له الخدمة التي انتظرها من ابن علي (ذبح الخصم التاريخي لليسار). لم يفعل الباجي ذلك لحساباته الارستقراطية الخاصة، وخسر اليسار معركة كبيرة في الأثناء. ولكنه أصر على البقاء في موقعه، فساند نظام الانقلاب العسكري في مصر على أمل أن القضاء على إخوان مصر سيقضي على إخوان تونس (والجزائر والمغرب وحتى السنغال ومالي). لكنه خسر معركته وهو الآن يشاهد عطش مصر على يد العسكري الانقلابي الذي تهاون في حق مصر التاريخي في النيل (النيل الذي أوجد مصر).
لهذه الخسارات الشعبية ثمن وهو يُدفع الآن، وسيذهب العسكري المصري ولو تأخر ذهابه.
للطرفة فقط، لقد اندثر حفتر وجر معه إلى هاوية سحيقة كل تقدمي عربي (يساري بالخصوص) راهن عليه، رغم أنه كان يشاهده يستقوي بتيار المداخلة المتخلف عن الوهابية نفسها. يحق لنا الاحتفال، فنهاية حفتر أمام احتمالات الصندوق الانتخابي في ليبيا واعدة بفرح كبير. فرح التخلص من كذبة اليسار العربي التقدمي فاتح مغاليق الحداثة.
نراجع فصول التاريخ القريب
هل كان هناك يسار عربي فعلا، أم أننا كنا نستلذ وهْم اليسارية العربية فنتخيل جيفارا عربيا يقود الجماهير إلى ثورة جذرية؟ نحن عشنا حقبة ابن علي ومبارك، وشهدنا عشرية الدم في الجزائر، ورأينا اليسار العربي يتخلى عن كل رومانسية مزيفة تعلن حماية الطبقة العاملة وتدفع إلى العدالة الاجتماعية. لقد خدم اليسار العربي طابورا مساندا للأنظمة القمعية وقبض ثمن خيانته لشعبه في كل قُطر. لقد حدد هدفه الخاص، ولم يكن في الواقع إلا هدف الأنظمة العميلة الفاسدة والخائنة للأمة. كانت الأنظمة قادرة من فسادها على الدفع وقد دفعت وكان اليسار (أحزابا وشخصيات ونخبا) مستعدة للبيع والقبض، وقد باعت وقبضت وتمتعت، فأين متعتها مما فازت به الأنظمة التي تركت لليسار فتات المال العام؟
الثورة وعدت بأمر مختلف وانتظرت اليسار العربي أو توهمته في موعد ثوري جيفاري، فإذا هو في موقعه القديم يساند فلول الأنظمة التي أسقطتها الجماهير بعفويتها الجاهلة أو الأمية أو الفطرية، بحسب ما قد يرى كل محلل لحركة الجماهير. لقد حكم اليسار العربي على نفسه بنهاية وبيلة، لقد انحاز ضد شعب طموح رغم فقره إلى نظرية ثورية. وماذا أفادت نظريات اليسار الثورية ذات الكراسات العريقة شعبا لم يشبع من الحرية بعد؟
لم تصل الثورة العربية إلى اليسار العربي من المحيط إلى الخليج، وقد شهدنا على اليسار العربي يقف مع كل طاغية وفاسد من أجل نفس الهدف القديم (هل كان ذلك هدفه أم هدف الأنظمة؟). لقد ارتزق من الخطاب الثوري، وظن أن الجماهير من الحمق بحيث تصطف معه في موقعه الخياني ولم يحصل.
لم يتطور الوضع كثيرا لجهة تقدم الديمقراطية، وما زالت كثير من الصعوبات تقف في طريق بلورة نظام حكم ديمقراطي عربي في كل قُطر على حدة، لكن هناك مكسب مهم لن تبنى الديمقراطية مع اليسار أو بواسطته. لقد حسم قوم كثير أمرهم: لن يكونوا مع اليسار في أي صندوق انتخابي. أغلب الناس الآن في موقع اختبار الإسلاميين (عدو اليسار وهدفه)، ويجدون لهم هنات وضعفا في السياسة وفي الفكر وفي الأخلاق أيضا، ويقدمون لهم نقدا جذريا لكنهم لا يصنفوهم في الخونة.
لنحتفل بنهاية اليسار العربي
نعم يحق لنا الاحتفال وإعداد مقابر لائقة لزعماء كذبة. ونحذر بوعي أننا نؤمن بالعدالة الاجتماعية ونقاوم الخيانة الوطنية والقومية، ونساند كل مقاوم للظلم والقهر في العالم ونحارب كل سمسار بالوطن وبأحلام الناس، ولكن بغير وسائل اليسار العربي السفيه وخارج تنظيماته الخائنة.
لقد أنهت الثورة إلى الأبد الإرباك الأخلاقي الذي كان يسببه لنا يسار عربي سفيه، عندما كان يعتلي المنابر ويتحدث عن الثورة الشعبية. لقد شفينا من مرض اليسار (ونحن مدينون للثورة بهذا الشفاء المعرفي والنضالي)، وخرجنا من دائرة الوهم: لا وجود ليسار عربي، توجد يسارية عربية (وهذا من إيماننا بوجود طبقة برجوازية خونة مستعدة لبيع الأوطان تقابلها طبقة مفقرين عرب تزداد اتساعا) لن يقوم بها هذا اليسار، مثلما توجد أمة عربية لن يقوم بها قوميون عرب يساندون بشار الأسد وحفتر ويبكون القذافي في ليلهم الطويل والحزين.
في سياق الاحتفال بنهاية اليسار لن نبرر لخصومهم من الإسلاميين، فهؤلاء يحملون في الخطاب الظاهر، وفي كثير من الممارسة السياسية أعراض مرض اليسار العربي. وقد لاحظنا لديهم استعدادات خيانية، لذلك سنحتفل لاحقا وفي عيد قادم بنهاية إسلاميين يصطنعون اليسارية ولا يتقنونها، غير أننا لن نقف ضدهم على طريقة اليسار العربي الخياني طابور الأنظمة الفاسدة؛ خائنة أوطانها ومعطشة شعوبها.
يحق لنا الاحتفال، فالثورة تصفي الكذبة قبل أن تنبي نظامها. ليبارك الله عيداً عربياً بلا يسار كذوب.
المصدر: عربي 21