مهمة الإعلام الأساسية نقل الخبر كما هو وعرضه بشكل مجرد وصادق أمام الرأي العام، وأحيانًا يستخدم الإعلام للمساعدة على تغيير واقع ما وزرع قيم جديدة في المجتمع بشكل تدريجي حسب توجه الجهة التي تمسك بزمامه وتتحكم به. ندرك جميعًا أن الحيادية التامة مطلب بعيد جدًا عن متناول الإعلام ، وأن تأثير الممول والمالك والمتحكم واقع لا شك فيه بدرجات متفاوتة من المهنية والمصداقية. لكن الملاحظ في الفترات الأخيرة على الجزء الأكبر من الإعلام العربي درجة كبيرة من الصفاقة والوقاحة في محاولة واضحة لإقحام قيم اجتماعية غريبة جدًا عن المجتمعات المستهدفة وتصويرها وكأنها واسعة الانتشار ومتجذرة في تلك المجتمعات وذلك بهدف تغيير الوعي الجمعي والبوصلة الاجتماعية عن مرجعيتها الأخلاقية وهويتها الحضارية التي يشكل الإسلام المكون الأبرز من مكوناتها. ما يحصل اليوم من كثافة في عرض الشذوذ والتفاهة والمحرمات كمكونات طبيعية وممارسات اعتيادية في مجتمعاتنا، والفتاوى الشاذة والتشكيك بأصول الدين بشكل ممنهج ومقصود هو بمثابة وباء إعلامي يمهد لما هو أكبر وأخطر من برامج تهدف إلى تغيير هوية المجتمع واقتلاع جذور الإسلام من هذه الأرض كما بينت بإسهاب في مقالة سابقة بعنوان ” الزلزال القادم ” ..
أن تعرض الدراما أو البرامج التلفزيونية المساكنة كحالة شاذة مرفوضة اجتماعيًا هو إضاءة إعلامية مفهومة على حالة اجتماعية نادرة، أما أن يتكرر عرضها كثيرًا وكأنها حالة مقبولة اجتماعيًا وشائعة وتصوير أصحابها كأبطال أو مضطهدين فنحن أمام حالة وباء إعلامي هادف.
وأن تعرض الدراما شرب الكحول في البيوت كحالة خاصة ببعض الأفراد أو بعض فئات المجتمع فهو أمر طبيعي ومفهوم، أما أن تعرض المشروبات الكحولية وكأن الكحول شائع في معظم البيوت العربية وكأنه عبوات مياه يتشارك الأقارب باحتسائه في سهراتهم كما الشاي، فنحن أمام وباء إعلامي هادف .
أن يبرز الإعلام معممًا يتكلم باسم الدين بأسلوب الطعن والتشكيك والتشويه لكل قيم ومبادئ ورموز الدين على أنه حالة شاذة منبوذة فهذا لا يخرج عن أسلوب الإعلام ومقاصده، أما أن يتم إبراز هؤلاء النكرات وأحذية الطغاة على أنهم الممثلين الشرعيين للدين فنحن أمام وباء إعلامي هادف .
أن يمنع كل المفكرين والمثقفين الملتزمين والوطنيين المستقلين من الظهور على وسائل الإعلام العامة مع محاصرتهم في وسائل الإعلام الخاصة أو ملاحقتهم واعتقالهم، واستبدالهم بالتافهين والتافهات والعملاء والأجراء والمشبوهين للحديث عن قضايا الأمة المصيرية أو أسس الدين ومبادئه فنحن أمام وباء إعلامي موجه وهادف.
وهكذا الحال بالنسبة لتناول العديد من القضايا التي شكلت لفترات طويلة ثوابت ثقافية أو اجتماعية أو وطنية حيث يقدمها الإعلام كمسائل خلافية أو يتقصد تمييعها والتشكيك فيها بهدف إسقاطها من وعي الناس، أو تناول ممارسات ترفضها معظم فئات المجتمع وتعتبرها شذوذا يستوجب الإنكار والمحاصرة وأحيانًا الإحتقار والمعالجة في حين يقدمها الإعلام الموجه كنماذج شائعة وأحيانًا محببة ويحاول كسب تعاطف الجمهور معها.
في كتابها عقيدة الصدمة بينت الكاتبة نعومي كلاين كيف تعمد الدول الكبيرة إلى إحداث صدمة اجتماعية كبيرة أو تستغل صدمة عفوية في مجتمع ما لإحداث تغيير جذري في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة أو الوعي الاجتماعي لم تكن في السابق قادرة على إقناع الجماهير به أو إجبارها عليه، كما حصل في أميركا مثلًا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر حيث تمكن الرئيس الأميركي وفريقه حينها من فرض سياسات اقتصادية وتشريعات محلية ودولية لم يكن حكام أميركا يحلمون بها قبل تلك الأحداث.
في منطقتنا كان الربيع العربي – الذي بدأ عفويًا – بمثابة الصدمة التي هزت أركان السياسة والاقتصاد والمجتمع وحتى الثقافة في بلادنا، استغلت الدول الغربية وأدواتها في المنطقة الصدمة وعملت على احتوائها وإجهاض الأهداف التي تحركت من أجلها الشعوب والالتفاف عليها وتوجيه دفتها من أجل تكريس واقع جديد وثقافة عامة جديدة في المنطقة العربية حاولت في السابق الدول الاستعمارية وأدواتها في المنطقة جاهدة تكريسها بكافة الوسائل دون تحقيق نجاح يذكر بسبب وعي الشعوب وتماسك مجتمعاتها ويقظة الحس الديني والقومي والوطني فيها.
التغييرات المهمة التي حاولت (وما تزال) تلك الدول وأدواتها فرضها كواقع جديد ترتكز على محورين أساسيين كبيرين مرتبط كل منهما عضويًا بالآخر: تغييب أو تغيير أو تشويه هوية المنطقة الإسلامية العربية، وإقحام الكيان الصهيوني كمكون طبيعي في المنطقة وتسليمه دور القيادة والريادة فيها.
كل الأوبئة الإعلامية التي نشم رائحتها العفنة اليوم على معظم الشاشات، وكل ما يرافقها من تغييرات جذرية في السياسات الثقافية والاقتصادية والقوانين والتشريعات والإعدامات والإعتقالات والتضييق على رموز فكرية ودينية وسياسية إنما تخدم الهدفين الكبيرين المذكورين أعلاه وتمهد الطريق أمام تكريسهما كواقع لامفر للشعوب المصدومة من القبول به.
ولأن الأداة الأكثر أهمية في عملية التزييف والتغيير الضخمة التي تستهدف الهوية والوعي الجمعي لمجتمعاتنا هي الإعلام. ولأن معظم الحكومات العربية التي تمتلك القرار السياسي والإعلامي ضعيفة أو مأجورة أو لا تحمل محمل الجد هموم أمتها وطموحات شعوبها. كان لا بد من استغلال الهامش الذي أتاحته الثورة التقنية من توفير منصات إعلامية فردية بهدف نشر الصورة الصحيحة للدين وتعميق الارتباط بالهوية الحضارية ورفض دمج الكيان الصهيوني في جسد الأمة – المنهك والمفكك بطبيعة الحال بأمراض مزمنة – لكنها تبقى أرجى للتعافي وأقل ضررًا من السرطان الصهيوني الصليبي الذي يسعى لإعلان وفاة المارد الإسلامي في أقرب فرصة.
المطلوب إذاً من كل مثقف ومفكر وفنان ويوتيوبر وعالم ومهني لديه إمكانات وكاريزما في مجال من مجالات الإعلام أن يقتطع بعضًا من وقته لمقاومة هذه الهجمة المنظمة ونشر الصورة الصحيحة عن ثوابت هذه الأمة وقيمها الحضارية وتوعية الجيل الصاعد ضمن الدائرة التي يمكنه التأثير بها مهما كانت صغيرة. إن كنت ترى في نفسك – ويرى فيك من حولك – حضورًا مميزًا في مجال الكتابة أو الخطابة أو الفن أو التحليل أو التأثير بوسيلة ما فلا تتردد بعد فراغك من عيادتك أو مكتبك أو مجال عملك أو دراستك باستخدام تلك الإمكانات في نشر الوعي اللازم لترسيخ الارتباط الواعي الذكي الهادف بالهوية، ولمنع ومحاصرة ورفض إدماج الصهاينة في الجسد العربي والإسلامي. فالهجمة كبيرة جدًا ومتعددة الأدوات، ولأننا نفتقد بجهة راعية مخلصة لدينها تنظم الحركة فنحن أتباع هذا الدين وأبناء هذه الأمة بحاجة لجهود كل المؤمنين بقضيتهم المعتزين بهويتهم. كل حسب إمكاناته ومن موقعه وبأسلوبه .
نعم للدين رب يحميه ، لكن المطلوب منك أن تتحرك ضمن دائرة تأثيرك مهما كانت صغيرة. أولًا: احترامًا لذاتك وحفاظًا على هويتك وإخلاصًا لدينك وحبًا لنبيك. ثانيًا: لكي تبقى الجمرة ملتهبة تحت الرماد. ثالثًا: لأن الموقف انتماء.
المصدر: اشراق