أن يتورط الناس، الذين ضاقت بهم سبل الحياة، في المراهنة على الانتخابات كطريق للخلاص، فهذا امر يمكن فهم اسبابه. فهؤلاء مثلهم كمثل الغريق الذي يتعلق بقشة. وأيضا يمكن فهم أسباب الجهود التي يبذلها المرتزقة وعملاء المحتل، من اجل دعوة الناس للاشتراك في الانتخابات، لان مقاطعتها قد تؤدي الى سقوط العملية السياسية، وبالتالي قطع مواردهم، ولربما ابعد من ذلك. لكن أن تنتقل هذه العدوى لتصيب بعض السياسيين والمثقفين، الذين يدعون معاداتهم للعملية السياسية والاحتلال الأمريكي والهيمنة الإيرانية، فهذا يعد جريمة وطنية بامتياز. فالمشاركة في الانتخابات تعني إضفاء صفة الشرعية على ذات الوجوه الكالحة، التي ستفوز حتما في الانتخابات لما تمتلكه من اموال وسلاح وسلطة.
ان أكثر ما يحزن في توجه هؤلاء السياسيين، تلك الذرائع التي يستندون اليها، لتبرير فعلتهم المشينة. منها اعتبار التعديلات التي أجريت على قانون الانتخابات وتشكيل مفوضية جديدة لها والأشراف الدولي عليها. تفسح المجال امام الوطنيين لدخول البرلمان، وخلق معارضة قوية تقف في وجه الفساد والفاسدين! مستشهدين على ذلك بالتيار الصدري وتحالفه مع أحزاب وقوى وصفوها بالوطنية والمستقلة عن إيران وميلشياتها المسلحة. منها كردية مثل الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود البرزاني، ومنها “سنية” مثل حزب المشروع العربي بقيادة خميس الخنجر وحزب التقدم لصاحبه محمد الحلبوسي. ولم ينس هؤلاء كيل المديح لمقتدى الصدر، زعيم هذا التحالف المنتظر الإعلان عنه رسميا، ووصفه بالرجل المعتدل والنزيه والعروبي، والرافض لنظام المحاصصة الطائفية. في حين يعلم القاصي والداني بان مقتدى الصدر وحلفاءه القدامى والجدد، جزء أساسي من العملية السياسية، وقد ساهموا مساهمة فعالة في تنفيذ مخطط الاحتلال الأمريكي ووصيفه الإيراني لتدمير العراق دولة ومجتمعا. ناهيك عن قبولهم الطوعي جميعا بالهيمنة الإيرانية والأمريكية معا.
لو توقفت هذه الترهات عند هذا الحد لهان الامر. فقد ذهبوا ابعد من ذلك بقولهم، ان أمريكا تدعم بكل قوة هذا التحالف الذي يقوده مقتدى، بالإضافة الى دعم عدد من الدول العربية. بل واسترسالا في الترهات، يجدون في امريكا القوة الوحيدة القادرة على تخليص العراق من الخطر الإيراني. بمعنى اخر فان هؤلاء أرادوا القول دعونا ندعم التحالف الجديد ونتعاون مع أمريكا لطرد المحتل الإيراني. فإيران هي سبب بلاء العراق. وبصرف النظر عن قوة هذه الذريعة وما تنطوي عليها من حقيقة، الا انها تبقى قاصرة امام الحقيقة بمجملها. حيث اكدت الوقائع، بما لا يدع مجالا للشك او التأويل، ان هذا الخطر الإيراني لم يكن وليد الصدفة. وانما ولد وترعرع وبلغ سن الرشد تحت سمع وبصر أمريكا وبمباركتها، بل هي من رسمت اطاره وحددت ابعاده ووضعت ضوابطه، بما لا يمس سلطتها كدولة محتلة وصاحبة القرار الاول والاخير في العراق. وخير دليل على ذلك، ان جميع الحكومات التي شكلت في العراق كانت باتفاق امريكي إيراني.
لكن هذا ليس كل شيء، فأمريكا قد اختارت عددا من الدول المجاورة لمساعدتها في احتلال العراق. لأنها تعلم جيدا بان هذه الدول تربطها مصلحة مشتركة في تدمير العراق دولة ومجتمعا. او على الأقل اسقاط النظام لاعتقادهم بان رئيسه صدام حسين يشكل خطرا على عروشهم. وكانت إيران في مقدمة دول الجوار التي اعتمدت أمريكا عليها في هذا الخصوص. وخير دليل على ذلك، ان ملالي طهران أنفسهم قد أكدوا ذلك، حيث قال قائلهم، لولا إيران لما تمكنت أمريكا من احتلال كابول وبغداد. نعم لقد صدق الرئيس الصيني الراحل مواسي تونغ بقوله، ان أمريكا لا تذهب الى رحلة الصيد الا وكلابها معها. وكانت دول الجوار وفي مقدمتهم إيران هم كلاب تلك الرحلة.
لا نقصد هنا على الاطلاق الاستهانة بالوجود الإيراني. بل لا نجادل انه يشكل خطرا على العراق، لما لإيران من احزاب طائفية موالية، ومليشيات مسلحة مرتبطة بها. وتأثير مذهبي ومنابر حسينية ومرجعيات دينية. وكاتب هذه السطور يذهب ابعد من ذلك، ويعتبر إيران عدوا تاريخيا للعراق، بصرف النظر عن شكل النظام الذي يحكمها، سواء كان علمانيا او إسلاميا او ملكيا. فإيران تعد من أكثر دول الجوار حرصا على تدمير العراق، او على الأقل أضعافه الى اقصى الحدود. لكن ان يجري الكفاح لأنهاء النفوذ الإيراني في العراق بطريقة منفصلة عن الكفاح الشامل لأنهاء الاحتلال بكل جنسياته المتعددة. فهذا نوع من التحايل لتمرير اجندات حزبية او فئوية ضيقة. بمعنى اخر أكثر وضوحا، ينبغي اعتبار الكفاح ضد الهيمنة الإيرانية وتخليص العراق منها، جزءا من المواجهة الشاملة ضد جميع القوات المحتلة ومن اية جهة كانت، وخاصة المحتل الأمريكي.
سيصرخ على الفور كل أصحاب هذه الذرائع الواهية ليقولوا لنا، إذا قاطعنا الانتخابات ورفضنا التحالف الجديد والاستعانة بأمريكا، التي وعدت بتغيير مسارها لصالح العراق، ترى ما هو البديل؟
ببساطة شديدة جدا، ان البديل لمثل هذه الأوضاع الشاذة في كل انحاء الدنيا، هي الشعوب وقواها الوطنية. وشعب العراق له تاريخ مجيد في الثورات ضد المحتل وعملائه وضد الحكومات الديكتاتورية والعميلة. واليوم تأتي ثورة تشرين العظيمة لتؤكد، ان الشعب هو القوة الوحيدة القادرة على التغيير. ومن يعتقد ان هذه الثورة قد انتهت جراء تراجعها لأسباب عديدة، فانه لفي ضلال مبين. فثورة تشرين لا تزال حية. لان الثورات لا يعيبها مثل هذا التراجع، فهي ليست جيشا نظاميا إذا كسر هزم، الثورة قوة شعبية تخوض كفاحا طويل الأمد، قد يستمر سنين عديدة لتحقيق أهدافه الوطنية المشروعة. وقد مرت كل الثورات الشعبية في العالم بحالة مشابهة، وحققت في نهاية المطاف الانتصار وحررت شعوبها من عار الاحتلال، وعملائه من شخصيات وتجمعات وحكومات. بمعنى أوضح، فالخط البياني لثورات التحرير الشعبية الطويلة الامد، لا يسير باتجاه الصعود دائما، لكنه يصل في نهاية المطاف الى القمة، اي لجهة انتصار الثورة مهما طال الزمن، في حين يكون نصيب المحتلين الهزيمة مهما بلغوا من قوة وجبروت. خصوصا وان ثوار تشرين يتسلحون بإرادة لم يشهد العالم مثيلا لها. والارادة كما يعترف ريتشارد نيكسون، رئيس أكبر قوة امبريالية في العالم، هي السبب في انتصار الفيتناميين على أمريكا. او كما قال بالحرف الواحد” ان الجيوش، مهما امتلكت من مقومات القوة الفتاكة، تخسر معاركها إذا فقدت ارادة القتال”. وها هي افغانستان تطرد المحتل الأمريكي بإرادة مقاتليها وبأسلحة بسيطة ومتخلفة. ولا يغير من هذه الحقيقة قبولنا او رفضنا لهذه الحركة، كما لا يغير إمكانية أمريكا تحويل هذه الهزيمة الى مكاسب تحققها هنا او هناك.
ليس من العدل والانصاف، بل من المعيب جدا، التخلي عن الثورة تحت ذريعة تراجعها او مرورها في ظروف صعبة، وانما يتطلب العدل والانصاف الوقوف الى جانبها والبحث عن اسباب تراجعها والعمل على ايجاد الحلول، وتقديم مزيد من الدعم والاسناد لها. بمعنى اوضح، لا يجوز لنا التغني بثورة تشرين وقت انتصاراتها ونرفع هاماتنا جراء بطولة ابنائها ونفتخر بعراقتينا بسببها، ونتخلى عنها في محنتها. لقد اثبتت الوقائع ان اصلاح العملية السياسية من داخلها ضرب من الخيال، سواء عن طريق مقتدى الصدر، او غيره من قوى وأحزاب وشخصيات. مثلما لا يمكن المراهنة على أمريكا او غيرها من الدول الأجنبية. فهؤلاء جميعا كانوا وراء الدمار والخراب الذي حل بالعراق وشعبه.
المصدر: كتابات