آخر البدع الدولية المتداولة بشأن الأزمة اللبنانية التي لم يسبق لها مثيل في العالم أجمع منذ 150 عاماً ، هي التدخل الإنساني الدولي، الذي تطرحه فرنسا ومعها معظم دول الاتحاد الاوروبي، وتؤيده الولايات المتحدة التي إنضمت إليها إسرائيل، أو ربما حصل العكس، أي أن الاسرائيليين هم الذين بدأوا الترويج للفكرة في واشنطن.
البدعة بحد ذاتها قديمة، طرحت أكثر من مرة في الغرب، كبديل للغزو الاميركي لافغانستان، ثم للغزو الاميركي للعراق، أو كمدخل لأي تدخل عسكري او سياسي في أزمات القارة الافريقية..وهي كانت ولا تزال تطرح بين الحين والاخر كمخرج من التسوية المستحيلة للقضية الفلسطينية، التي يظن بعض مدعيّ الالتزام بالمعايير الانسانية والاخلاقية، أو بعض المتواطئين مع اسرائيل، أن مشكلة الشعب الفلسطيني هي في فقره، لا في غربته عن أرضه.
والحال ان التدخل الانساني، الذي ورد في عدد كبير من مشاريع القرارات المقترحة على مجلس الامن الدولي، في العقود التي تلت تفكك الاتحاد السوفياتي، وتفتت الدول التي كانت تدور في فلكه، تحت عنوان تحرير شعب ما يختطفه دكتاتور أو عصابة، من خطر الموت جوعاً، لم يجد طريقه الى التنفيذ، في أي منطقة من العالم، برغم القليل من النوايا الحسنة والكثير من النوايا المبيتة، ولم يشهد أي بلد مهدد بالمجاعة جسوراً جوية تلقي المواد الغذائية او الحيوية، ولم يسجل نزول “فرق السلام” الاغاثية الدولية، على أرضه. كانت قوات التدخل العسكري السريع، ولا تزال هي السباقة دائماً، في الاشارة الى أن الغرب لم يكن ولن يكون مؤسسة خيرية.
التجربة اللبنانية ليست فريدة من نوعها. صحيح أنها الاسوأ في تاريخ لبنان، وفي تاريخ العلوم السياسية والاقتصادية المعاصرة. لكنها تجد مثيلاتها في الكثير من الدول الافريقية التي عانت، ولا تزال، من طغيان فرد أو جماعة أو قبيلة، وما يتبعه ذلك من فساد إستثنائي، يضع الغالبية الساحقة من المواطنين على حافة الموت، أو التسول.. ويمكن تعداد أكثر من عشرة بلدان أفريقية تقع في النصف الجنوبي من القارة السوداء، وتعيش حتى اليوم، على شفير الانهيار التام، وربما الزوال عن الخريطة، باستثناء بعض التجارب الناجحة نسبياً مثل غانا وبوروندي وأثيوبيا..
لكن الازمة اللبنانية، جذابة وحساسة أكثر من الازمات الافريقية المشابهة، نظرا لموقعها الجغرافي المتاخم للاتحاد الاوروبي وصلتها بعدد من الدول المهمة أو المضطربة، التي تخشى أن يتخطى الانفجار اللبناني الحدود الدولية، ويتسبب بموجات هجرة غير مرغوبة، أو بتوترات أمنية غير محمودة.. لكن جاذبيتها لم ولن تصل الى حد لجؤ المجتمع الدولي الى التدخل الانساني في لبنان، سواء بقرار من مجلس الامن ، ما زال مستحيلاً، أو من دون مثل هذا القرار.
البدعة الرائجة حالياً، لا تتعدى الهدف الدعائي، وهي تمارس نوعاً من الضغط الاضافي على المسؤولين اللبنانيين عن الازمة، الذين يصعب في الاصل أن يتأثروا بمثل هذه الضغوط، وأن يقلعوا بالتالي عن الفتك بمواطنيهم. مع العلم أن التلويح بالتدخل الانساني الدولي يمكن أن يزيدهم عناداً وإصراراً على مواقفهم وممارساتهم المعادية للمواطن اللبناني.. ويزيدهم إطمئناناً الى أن هذا المواطن الذي يعاني من الجوع اليوم، لن يموت غداً، طالما أن المجتمع الدولي يشعر بعذاباته، ويدرك خطورة إنهيار دولته وتفكك مجتمعه.
ولن يكون من المستبعد التكهن في أن المسؤولين اللبنانيين عن الأزمة، هم أنفسهم الذين يستدعون ضمناً ذلك التدخل الانساني الدولي، مثلما إستدعوا أكثر من مرة التدخل الانساني العربي، وحصلوا على نتائج حسنة حتى الآن، خلال برامج المساعدات الطارئة التي تنفذ حالياً من قبل معظم دول الخليج، وغيرها من الدول الشقيقة والصديقة، من دون أي حساب سياسي، لا سيما في أعقاب كارثة إنفجار المرفأ العام الماضي.
قد تكون فرنسا هي مصدر البدعة الجديدة والأشد حماسة لترويجها، لأن جميع أفكارها (مبادراتها) السياسية والاقتصادية التي تكثفت إثر ذلك الانفجار، وصلت الى طريق مسدود، عندما تبين أنها تهدف الى إعادة تدوير الطبقة السياسية الحاكمة، ولم يبق منها سوى الرهان المشكوك به، على هيئات ومنظمات المجتمع المدني للفوز في الانتخابات النيابية المقبلة..
أما أن تنضم إسرائيل أخيراً الى تلك البدعة، فان في ذلك ما يتعدى الشماتة الاسرائيلية بحزب الله، وإيران، ويصل الى حد الحذر من إختراق إسرائيلي جديد، مختلفٍ عن كل ما سبق، لبعض الانحاء او البيئات اللبنانية المحددة، بما يستلهم تجربة “الجدار الطيب”، على الحدود الجنوبية، ليبني الكثير من الجدران المماثلة على مختلف الاراضي اللبنانية، هذه المرة تحت شعار التدخل الانساني الدولي المريب، والمناقض لجوهر الازمة اللبنانية وحلولها المعروفة من الشقيق والصديق..والعدو.
المصدر: المدن