في 28 حزيران/يونيو، قصفت الولايات المتحدة ثلاثة مواقع للميليشيات – اثنان في سوريا وواحد في العراق – رداً على تصعيد الهجمات بطائرات بدون طيار ضد مواقع أمريكية في العراق. ويبدو أن الضربات الليلية قد أصابت منشآت لتخزين واختبار الطائرات بدون طيار، مما تسبب في وقوع أضرار مادية ومقتل ما يصل إلى خمسة أشخاص. ومع ذلك، على إدارة بايدن أن تفعل المزيد إذا كانت تأمل في إصلاح قدرة الولايات المتحدة على الردع – ولم تشن الولايات المتحدة حتى الآن سوى هجوميْن رداً على 24 هجوماً صاروخياً وهجمات بطائرات بدون طيار خلال الأشهر الخمسة الماضية. وإذا استمرت هذه النسبة من الرد، فستواصل الميليشيات تصعيدها ببساطة، وسيفقد المزيد من الأمريكيين حياتهم.
بطاقة نتائج الردع: إدارتان
جاء الهجوم الصاروخي الأول الذي أطلقته الميليشيات المدعومة من إيران خلال فترة إدارة الرئيس بايدن بعد يوم واحد فقط من تنصيبه في 22 كانون الثاني/يناير، ومنذ ذلك الحين أعقبه 23 هجوماً إضافياً ضد أهداف أمريكية. ولم ترد الولايات المتحدة عسكرياً إلا على هجومين هما: ضربة في 25 شباط/فبراير أدت إلى مقتل أحد رجال الميليشيات في سوريا، والضربة الأخيرة في سلسلة من الهجمات تسببت في مقتل خمسة أشخاص. بعبارة أخرى، أفلتت الميليشيات من العقاب بعد شنّها هجمات ضد مواقع أمريكية في 91 في المائة من الوقت.
ولم يكن “معدل التبادل” المسجل خلال الأشهر الستة الأخيرة من فترة إدارة الرئيس ترامب أفضل بكثير – فقد واجهت إدارته سبعة وثلاثين ضربة على القواعد الأمريكية في العراق ولم ترد ولوْ مرة واحدة. ومع ذلك، فمن الجدير بالملاحظة أن وتيرة هذه الهجمات تراجعت من 33 ضربة في الفترة بين تموز/يوليو وأيلول/سبتمبر 2020 إلى أربع ضربات فقط بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر، مما يشير إلى أنه كان هناك أثر لأحد العوامل في الموقف الإجمالي الرادع للإدارة الأمريكية حتى عندما كانت هناك عوامل أخرى فاعلة.
وعلى الأرجح، كان ضبط النفس الذي مارسته الميليشيات في نهاية العام المنصرم نابعاً إلى حد كبير من عمليتين حسابيتين أجرتهما جهاتها الراعية في طهران: أولاً، أن إدارة ترامب ستنفذ تهديداتها بالانتقام الشديد وغير المتكافئ، وثانياً، كانت هناك فوائد يمكن الحصول عليها من تخفيف التوتر مع الإدارة الديمقراطية القادمة قبل بدء المفاوضات المستقبلية بشأن تخفيف العقوبات. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا كيف أقام فريق ترامب مثل هذه القوة الرادعة في المقام الأول، وكيف يمكن لفريق بايدن إحياؤها بشكل أفضل؟
إثارة الردع بدون ترامب
يشير تصعيد الهجمات منذ تنصيب بايدن إلى أن “الهدنة المشروطة” المفروضة ذاتياً التي أعلنتها الميليشيات في 11 تشرين الأول/أكتوبر 2020 كانت مدفوعة بشكل أساسي بالخوف من إدارة ترامب. ففي الفترة بين 22 كانون الثاني/يناير ونهاية آذار/مارس، ضربت المليشيات مواقع أمريكية ثماني مرات، ومن نيسان/أبريل وحتى اليوم، ارتفع عدد الهجمات بشكل ملحوظ إلى 19 ضربة، حيث تم تنفيذ ثماني منها على الأقل بطائرات مسيّرة جديدة وأكثر دقة.
وقد يكون أحد دوافع هذا التصعيد هو الطبيعة المحدودة للغاية للضربة الانتقامية الأولى التي شنها فريق بايدن في 25 شباط/فبراير، والتي لم تتسبب عملياً في أي أضرار ولم تسفر عن مقتل أي مسؤول بارز أو صاحب منصب متوسط في صفوف الميليشيات. واليوم، من الواضح أن أنظمة الطائرات بدون طيار التي تستخدمها الميليشيات في هجماتها هي من تصميم إيراني، وفي بعض الحالات يُشغّلها الوكلاء العراقيون الأقرب إلى النظام (على سبيل المثال، “كتائب حزب الله”) وليس جماعات الواجهة. ومن ثم، أصبح بالإمكان التصريح دون تردد أن إيران لم تعد تخشى التعرض لضربات انتقامية شديدة أو عرقلة المفاوضات النووية – أو ربما لم تعد تهتم بكيفية اختتام تلك المحادثات.
ومن هذا المنطلق، كان لأسلوب الرئيس ترامب غير المنتظم في صنع القرارات، واستعداده لتوجيه ضربات قاسية إلى إيران والميليشيات في بعض الأحيان، واشتداد حدة الدراما السياسية المحيطة بالانتخابات الأمريكية وإجراءات انتقال السلطة فوائد بلا شك لأغراض الردع. فعندما بدأ فريقه بالتهديد بانتقام غير متناسب في تموز/يوليو الماضي، بدا أن إيران ووكلائها ينظرون إلى التهديد باعتباره ذا مصداقية – وهو استنتاج كان ينبع دون شك من قيام الولايات المتحدة بقتل مستهدف لأقوى جنرال إيراني وأكبر شخصية من الميليشيات في العراق في بداية عام 2020. وبالطبع، لا يمكن ولا ينبغي تكرار هذه الصيغة حرفياً، لكن بإمكان الرئيس بايدن استقاء بعض الدروس منها.
وتتمثل العبرة الأساسية في مَيْل إيران وميليشياتها إلى التصعيد ضد الأهداف الأمريكية إلى أن يتم كبحها. وحصل ذلك في عام 2019 حين كثّفت هجماتها إلى أن أودت في النهاية بحياة مواطن أمريكي في قاعدة “كاي-1” في كركوك في 27 كانون الأول/ديسمبر، مما تسبب بتصعيد حاد أدّى إلى وقوع أول اشتباك عسكري مباشر بين الولايات المتحدة وإيران منذ الثمانينيات. وتكررت هذه الديناميكية في آذار/مارس 2020 حين قُتل جنود أمريكيون وبريطانيون في [معسكر] “التاجي”، مما أدى إلى شن ضربات أمريكية على مواقع اختبار الصواريخ وتخزينها التابعة لـ «كتائب حزب الله».
ومن بين العوامل الأخرى الكامنة وراء هذه الديناميكيات هو سجل إيران الحافل بإساءة استخدام الغطاء الدبلوماسي الذي توفره المفاوضات النووية لتكثيف أنشطتها الخبيثة في المنطقة. وفي الفترة 2014-2016، عززت طهران من تدخلها العسكري في سوريا واليمن، ومن إمداداتها من الصواريخ والطائرات المسيّرة للميليشيات، ومضايقتها لسفن البحرية الأمريكية. واليوم، يبدو أن ديناميكية مماثلة قائمة في العراق، حيث يبدو أن إيران لا تحرّك ساكناً لكبح جماح جماعات مثل «كتائب حزب الله»، ولا تزال تسمح لضباط من «الحرس الثوري الإسلامي» بتوجيه أنشطة الميليشيات في بعض الأحيان. ورغم أن هذه الجماعات غالباً ما تتجنب إعلان مسؤوليتها عن هذه الهجمات من أجل الحفاظ على قشرة رقيقة من الإنكار لنفسها ولطهران، فإن أي محاولة لادعائها بالبراءة هي أمر مثير للسخرية بشكل واضح بالنظر إلى أن هجوم 27 حزيران/يونيو في إربيل والهجمات السابقة قد نُفذت بواسطة طائرات بدون طيار تحمل علامات تصنيع المعامل الإيرانية. ويتمثل الحل البديهي بل الصعب في استئناف مساءلة إيران، وليس فقط ميليشياتها السرية.
توصيات في مجال السياسة العامة
إن المعضلة التي تواجهها إدارة بايدن واضحة – فبعد خمسة أشهر فقط من تسلّمه الرئاسة، شنّت إدارته هجمات على الميليشيات العراقية بالوتيرة التي اعتمدها ترامب في عام 2020 بأكمله، ولكن دون تحقيق أي من التأثيرات نفسها. وفي الواقع، تجاهل وكلاء إيران أساساً الانتقام الأمريكي الأخير بقصفهم قاعدة أمريكية في شرق سوريا. وسيكون الردع أكثر فعالية إذا توافقت الضربات الأمريكية المستقبلية مع المبادئ التالية:
نسبة ردّ أعلى: على الجيش الأمريكي زيادة نسبة الردّ على الهجمات الدفاعية. فنسبة 1:12 غير كافية ببساطة لإقناع أي ميليشيا بأن التعرّض لأهداف أمريكية أمر محفوف بالمخاطر. وحالما تتم استعادة قوة الردع، سيكون من الضروري تقليل عدد الضربات الأمريكية، ولكن في غضون ذلك قد يستلزم الأمر تنفيذ المزيد من الضربات.
هجمات أكثر قسوة: إذا زادت واشنطن نسبة ردّها ولكن مع ذلك استمرت في التساهل مع بعض الهجمات التي تقوم بها الميليشيات، فعليها أن تضمن أن ضربات الردع “المدعومة” التي ستنفذها في النهاية تتناسب مع جميع هجمات الميليشيات التي أدّت إليها. فالردّ على هجوم خفيف تشنه أي من الميليشيات برد انتقامي أمريكي خفيف لا يعني شيئاً إذا كانت عملية الميليشيا قد سبقتها عدة عمليات بقيت دون حساب على مدار أسابيع. وكما أظهرت الضربة التي شنتها الإدارة الأمريكية في 25 شباط/فبراير، غالباً ما سيؤدي ردّ انتقامي منفرد وضعيف إلى زيادة هجمات العدو في المستقبل وليس ردعها.
استهداف القيادة. على الرغم من وجود بعض الفائدة من الرد على الهجمات في الوقت الذي تختاره الإدارة الأمريكية، إلا أنها ربما لا تستغل بالشكل الكافي فرص الاستهداف المتاحة أمامها. فالسماح بمرور بعض الوقت بين الجريمة والعقاب قد يمكّن القوات الأمريكية في بعض الأحيان من تحديد الأهداف القيادية في الميليشيات وضربها بسهولة أكبر، كلما تسنح الفرص. إنها الطريقة المناسبة لتحقيق الردع الفعلي – من خلال محاسبة القادة عبر ممتلكاتهم أو حياتهم إذا لم تتوقف الهجمات. ومع ذلك، لم يتم إثبات أي مساءلة شخصية جوهرية بعد مرور خمسة أشهر وشن أربعة وعشرين هجوماً، لذلك ليس لدى مسؤولي الميليشيات سبب معقول للخوف منها.
هجمات غير معلنة. من خلال تبنيها علناً كل ضربة، يمكن القول إن الولايات المتحدة تُضعف قوة الردع لديها عبر ممارسة الضغوط على الخصم من أجل الردّ. ففي بعض الحالات، قد يكون من الأفضل أن تتبع واشنطن النموذج الإسرائيلي حيث غالباً ما يعتمد المسؤولون الغموض عن عمد بشأن ما إذا كانت قواتهم هي التي نفذت بعض الأفعال، تاركين للخصم ما يكفي من الغموض لحفظ ماء الوجه لتجنب الردّ. وطالما يتمّ إبلاغ الكونغرس الأمريكي عبر القنوات المناسبة (كما هو الحال مع العمليات السرية الأخرى)، فليس هناك سبب لإعلان الولايات المتحدة مسؤوليتها عن كل هجوم. وفي الواقع، يفضل الشركاء الأجانب على الأرجح أن تكون واشنطن أكثر تكتماً بشأن خطواتها الدفاعية، كما أُشير إلى ذلك عندما أدانت بغداد بشدة الضربة الأمريكية في 28 حزيران/يونيو باعتبارها “انتهاكاً صارخاً وغير مقبول للسيادة العراقية”.
مايكل نايتس هو “زميل برنشتاين” في معهد واشنطن، ومؤلف مشارك لدراسته لعام 2020 بعنوان “التكريم من دون الاحتواء: مستقبل «الحشد الشعبي» في العراق”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى