بعيداً من الرهانات على تطورات إقليمية ودولية تنعكس على ملف تشكيل الحكومة اللبنانية، والاستعصاء الداخلي اللبناني المستمر فصولاً من الخلافات والشروط والشروط المضادة على وقع الانهيار، ثمة أسباب رئيسية للأزمة تتمثل أولاً في التركيبة السياسية والطائفية التي أوصلت النظام إلى الإنسداد وإلى فشل الدولة، وثانياً العلاقة القائمة بين “حزب الله” والتيار العوني، ونظرتهما إلى الدولة ومؤسساتها انطلاقاً من التحالف المصلحي الذي قام بينهما منذ عام 2006، وارتكازه على تحالف الأقليات، وإن كان مشروع “الحزب” يختلف في تجربته كقوة إقليمية مرتبطة بمرجعيته الإيرانية.
في الممارسة السياسية، ارتد رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون إلى سيرته السابقة، مذكراً بتاريخه النضالي، منذ أن كان رئيساً لحكومة عسكرية بين 1988 و1990، وهو في الأساس مارس السياسة من موقعه الرئاسي الذي وصل إليه في 2016 بصيغة فئوية، أي أنه تصرف كطرف خلال السنوات الماضية من العهد، وليس كحكم يدير التناقضات ويطلق المبادرات للتسوية. لنتذكر أن الفراغ في الرئاسة بقي نحو سنتين ونصف السنة بين 2014 و2016 إلى أن حُسم اسم عون للرئاسة، وهنا ساهم “حزب الله” في تعليق البلد لمنح حليفه الذي أعطاه داخلياً وإقليمياً وغطى تدخله في سوريا والمنطقة، الوصول إلى المركز الأول في لبنان، فكان العهد العوني صدامياً من هذه الخلفية كطرف وليس من موقع الوطنية العامة.
هذا الأمر قد يكون من طبيعة التركيبة اللبنانية وما حل بها منذ عام 2005 في سياق الصراع الطائفي الداخلي وامتداداته بين المحاور الإقليمية. لكن عون يُدرك انه لا يستطيع أن يحقق السيطرة المطلقة في الحكم ولا يمكنه أيضاً السير الى ما لا نهاية بالكسر الطائفي تحت عنوان استعادة الصلاحيات متسلحاً بدعم وتناغم مع الطرف الأقوى اليوم أي “حزب الله” الذي يفكر هو الآخر بطريقة مختلفة، أي اختراق البيئات الطائفية من دون الصدام معها مباشرة، لذا لا يمكن لعون أن يكون الرئيس القوي في البنية اللبنانية استناداً الى هذه السياسة، والدليل أن استعادة شعاريته النضالية منذ 1989 تؤسس لصدام مع المكونات الأخرى، فيما تجربته كانت كلها إخفاقات وانتكاسات، تماماً كما يحدث اليوم في موقعه الرئاسي الذي لم يحقق إنجازات وطنية فيما البلد ينزلق إلى الانهيار الشامل.
منذ التحالف الشهير بين ميشال عون وحسن نصرالله، سار البلد في طريق مختلف. التغطية المتبادلة غيّرت الكثير من المعادلات في التركيبة وفي توازن القوى باعتبار أن “حزب الله” الطرف الذي يملك السلاح تحت عنوان “المقاومة” ولديه فائض قوة يستطيع من خلاله حسم الأمور بطريقة مختلفة، وإن كان لبنان يقوم على حكم الطوائف التي تمتلك حقوق نقض، فضلاً عن توزيع الأدوار وتكريس المحاصصة، والتغيير الذي حدث منذ 2008 بعد مواجهات 7 أيار (مايو) ونزول “حزب الله” بسلاحه طاول طريقة تشكيل الحكومات وأوجد تقاليد أمر واقع من بينها الثلث المعطل، كما أنه كرّس صيغة جديدة لانتخاب رؤساء الجمهورية، وهكذا شهدنا فراغات متتالية بين 2010 و2016 علماً أن حكومة الرئيس تمام سلام لم تكن مستقيلة عند انتهاء عهد ميشال سليمان في 2014 لكنها حكمت بصيغة كل وزير “رئيس” الى أن تمت التسوية بانتخاب عون وعودة سعد الحريري لرئاسة الحكومة في 2016. وفي المحطات كلها كان “حزب الله” المقرر أو القادر على تجيير الأمور وحسمها في اتجاهات محددة وفقاً لأهواء حليفه “التيار الوطني الحر”.
وفيما بلغت الأزمة اليوم ذروتها لدى العهد بالدرجة الأولى، وأيضاً لدى المكونات السياسية والطائفية الأخرى، إلا أن الرئيس ميشال عون باستعادته لتاريخه السياسي والنضالي والطائفي لا يسير نحو تأسيس أجواء توافقية أو تسووية، ولم يتأسس نهجه على صناعة الشراكة، وهو ما يحدث اليوم، وإن كان الجميع يتحمل مسؤولية ما آل إليه الوضع اللبناني من فوضى وانهيار. يدل ذلك على أن التمركز في السلطة أو في موقع الرئاسة الأولى لا يمكن أن يستند في البنية اللبنانية وفي تركيبتها إلى قوة حزبية لأنها تذهب إلى التسلط والإقصاء، وتؤدي إلى الاصطفاف في المواقع الأخرى، وهذا ما يحدث حالياً في الحزبية العونية التي تعبّر عن مواقف الرئيس وتندمج معه في المعارك التي يخوضها ضد الخصوم، وهم قسم من الطوائف ومن القوى التي لها مصالح في هذه البنية التي وصلت إلى حافة الهاوية. وعلى هذا يأخذ العونيون من الماضي ما يرونه مناسباً لحالة البلد الراهنة، ويسعى التيار الى تكريس حالة تأسيسية لبنانية عبر الإنعزال… تُستحضر مفردات من الماضي باسم “التيار الوطني الحر” لكن بظروف مغايرة، والهدف اليوم هو السيطرة على القرار أو محاولة الهيمنة وإن كانت استعادة الصلاحيات غير ممكنة، علماً أن هذا الشعار أشعل الحرب الأهلية في البلد وكلّفه أثماناً باهظة. لكن خطاب عون ومعه رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل قد تكون تكاليفه باهظة على المسيحيين والبلد، علماً أن باسيل نفسه يعتبره طريقاً للحفاظ على التوازنات الطائفية وان كانت مختلة اليوم عددياً. ومن هذا الخطاب الذي يحتضنه الرئيس عون، تبدو المحاولات مستميتة لاستعادة بعض الصلاحيات، لكنها في الواقع تكبد المزيد من الخسائر، وصولاً إلى المثالثة في البلد، ما يعني أن استعادة بعض مقومات الوزن المفقودة قد ترتد مزيداً من الخلل في التوازنات الطائفية. على هذا كانت رئاسة ميشال عون الأكثر انكشافاً عما حل بلبنان من تهشيم لبنيته وتجاوزات للدستور وإرساء سلطات أمر واقع.
في المقابل، يقدم “حزب الله” صورته من خارج الدولة. يتصرف ارتباطاً بمرجعيته الإقليمية إيران، ويتدخل عندما تدعو الحاجة في المنطقة وفق مصالحها. لذا تبدو علاقة الحزب بالدولة وتحالفاته مع القوى الأخرى، ترتكز على عنصر القوة التي يمتلكها. يكرس منطق الغلبة في النظام والهيمنة ويفرض على الجميع أخذ مصالحه بالاعتبار تحت عناوين مختلفة. لذا لم يستشر أحداً حين تدخل في سوريا، بصرف النظر عن المطالبة بنقاش سلاحه، فيما فرض نفسه لاعباً أساسياً بتطويع القوى التي كانت ترفض مشاركته في الحكومة.
“حزب الله” مرتاح على وضعه اليوم وهو يُمسك باللعبة من الجهة الخلفية. هو الطرف الذي يمتلك فائض القوة والسلاح. يُصر على مشاركته في الحكومة وتسمية الوزراء الشيعة ويطالب بحقائب محددة. ينظّم مناطقه التي يسيطر عليها وينطلق منها ببناه العسكرية والأمنية. وقد نجح في تحييد بنيته وسلاحه عن أصل المشكلة، فقدم نفسه على قاعدة النأي، ليتولى القيام بدور محدد لحل المعضلة القائمة وهو جزء منها لا بل قوة أساسية مقررة وممسكة بالأرض. وإذا كان “حزب الله” فرض ما يريده على رغم كل العقوبات التي فرضت عليه، وقدم سلاحه وممارساته وهيمنته وكأن لا علاقة لها بالمعضلة القائمة في لبنان، فإن علاقته بالدولة تبقى مشوهة، ومشروعه يقفز فوقها… وهذه مشكلة خطيرة.
في المحصلة، العلاقة المصلحية بين الطرفين لا تخدم الدولة، ولا تسمح بإعادة بنائها. أكثر الأمثلة الحية أن لبنان وصل الى القعر في عهد ميشال عون… ولا يمكن تحييد “حزب الله” عن مسؤوليته في وصول الأمور إلى الانهيار!
المصدر: النهار العربي