إيران المتشددة والعرب المتراخون

عبد الحليم قنديل

   ربما لا خلاف كثير على طبيعة النظام الإيرانى ، ولا على دولته الدينية ، ومذهبيته الضيقة ، وديمقراطيته الصورية ، وترسانة صناعاته العسكرية الذاتية، وجوهره القومى الفارسى، وطبائعه المفرطة فى البراجماتية، التى أكسبته توحشا فى النفوذ وخرائط التوسع، وعلى حساب العرب الغائبين بالذات .

  وربما لا جديد جوهرى يذكر مع فوز آية الله “إبراهيم رئيسى” الموصوف بالتشدد بمنصب الرئاسة الإيرانية ، فالرئيس فى النظام الإيرانى معقد التكوين ، ليس رئيسا بالمعنى المفهوم ، بل أقرب إلى وزير أول أو رئيس وزراء فى نظام رئاسى مطلق فردى الصلاحيات، وقد يدير بعض أعمال السلطة التنفيذية ، لكن ليس بوسعه اتخاذ قرار أساسى، لافى السلاح ولا فى السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية ، ولعبة توزيع الأدوار بين إصلاحيين ومحافظين فى السياسة الإيرانية ، محكومة أساسا بقرار المرشد الأعلى ، الذى لا ينتخب من الشعب على أى صورة ، بل يجرى اختياره من مجلس كهنوتى ، يسمونه “مجلس خبراء القيادة” ، الذى يعين المرشد نفسه نصف أعضائه من رجال الدين ، إضافة لهيمنة المرشد المطلقة على الجيش والمخابرات والحرس الثورى وقوات “البسيج” ، وعلى “سلطة القضاء” و”مجمع تشخيص مصلحة النظام” و”مجلس صيانة الدستور” ، والأخير مكلف بفحص أوراق وتقرير أهلية المرشحين لأى انتخابات برلمانية أو رئاسية ، أى التحكم من المنبع فى أى عملية انتخابات ، وكما جرى فى آخر انتخابات برلمانية لمجلس الشورى ، ومن بعدها فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة ، وقد جرى شطب مرشحين بالآلاف فى انتخابات البرلمان ، وبالعشرات فى انتخابات الرئاسة ، وبينهم أسماء بارزة ، عملت فى ظل نظام المرشد نفسه ، كما جرى مع “أحمدى نجاد” الرئيس الأسبق ، ومع “على لاريجانى” رئيس البرلمان فيما سبق ، ومن دون الحاجة لإبداء أسباب ، وقد كان قرار المرشد هذه المرة ظاهرا من البداية ، بإفساح المجال لاختيار “إبراهيم رئيسى” ، ونقله من رئاسة السلطة القضائية إلى رئاسة الجمهورية ، برغم خسارة “رئيسى” للمعركة الانتخابية السابقة عام 2017 ، أمام الرئيس المنتهية ولايته قريبا الشيخ حسن روحانى ، ويوصف روحانى بالاعتدال مقابل تشدد رئيسى ، لكن لا فارق سياسى يذكر ، ربما سوى فى كاريزمية روحانى الشخصية ، وسوى فى تراجع نسب المشاركة الانتخابية الأخيرة إلى أدنى حد منذ قيام ثورة الخمينى عام 1979 ، وقد كان رئيسى ـ كما روحانى ـ من أبناء الإمام الخمينى المخلصين ، ونسبت إلى “رئيسى” فظائع مفزعة ، ربما كان أقدمها ماجرى عام 1988 ، حين كان الرجل معاونا للمدعى العام فى المحكمة الثورية ، التى قررت إعدام عشرات الآلاف من المعارضين دفعة واحدة ، لم يعثر بعدها على أثر للضحايا ، لا على جثث ، ولا على شواهد قبور .

  وبرغم إدعاءات أمريكا والغرب الكاريكاتيرية عن الديمقراطية وأولوية حقوق الإنسان ، فلم نسمع سوى همهمات إعلامية انطباعية ، وتقارير موسمية للمنظمات إياها من نوع “العفو الدولية” و”هيومان رايتس ووتش ” ، بينما لم يصدر عن واشنطن سياسيا أى اعتراض جدى على انتخاب رئيسى ، بل مجرد تعقيب لطيف من متحدثة البيت الأبيض ، يقول أن الرئيس جو بايدن لا يخطط للقاء قريب مع الرئيس الإيرانى الجديد ، بعد أن سبق “رئيسى” بتأكيد أنه يرفض لقاء بايدن ، ومن دون أن يؤثر ذلك على مجرى مفاوضات فيينا ، التى تهدف إلى إعادة واشنطن للاتفاق النووى الإيرانى ، ورفع العقوبات أو أغلبها بالجملة عن طهران ، واستعادة الأخيرة لمئات المليارات من الدولارات ، والعودة إلى التصدير الحر لثرواتها الهائلة من البترول والغاز الطبيعى ، وتهدئة التوترات السياسية والاجتماعية فى الداخل المأزوم اقتصاديا ، ومن دون التخلى كلية عن الطموح النووى ، ولا إبداء الاستعداد لأى نقاش فى برنامج إيران الصاروخى ، وشبكات نفوذها الإقليمى ، وحجة واشنطن ، أن القرار فى يد المرشد ، وليس رهينا بسياسات تنسب روحانى ولا لرئيسى من بعده ، وهو اعتراف وتسليم بالأمر الواقع فعلا ، ومقابلة للمصالح بمقتضى المصالح لا المبادئ المزعومة ، فهدف واشنطن كسب تواصل مع إيران برغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية المباشرة لأكثر من أربعين سنة ، وليس تركها حكرا لنفوذ “العدو” الصينى والروسى ، خصوصا بعد اتفاقية ضخمة وقعتها إيران قبل شهور ، تتيح لها كسب 400 مليار دولار استثمارات صينية على مدى ربع قرن مقبل ، ومقابل نفوذ لوجيستى وتجارى وعسكرى لبكين ورفيقتها موسكو ، وهذا ما تتحسب له واشنطن ، وتضعه فى اعتبارها الأول ، ومن دون التفات إلى صرخات أتباعها العرب الملتاعين على الشاطئ الغربى من الخليج ، ولا إلى تسول عطف أمريكى صار بغير محل فى اللعبة الكبرى الجارية فصولها ، فالتشدد الإيرانى يكسب أرضا ، وينوع فى فرصه مع الكبار ، بينما المتراخون العرب الخليجيون يخسرون الجلد والسقط برغم مئات مليارات الدولارات التى دفعوها لواشنطن ، ويتخلى عنهم سيدهم الأمريكى ، ويسحب قواته وبطاريات “الباتريوت” من أراضيهم ، ويتركهم فى العراء الموحش ، نهبا لتحفز القوة الإيرانية المتنامية المجاورة ، وسيطرتها على أربع عواصم عربية ، حتى لو سقطت الخامسة فى “غزة” من حساب الأيام الإيرانية المقبلة بسبب عودة حائط الصد المصرى .

  وقد لا يفيد البكاء ولا الولولة على اللبن المسكوب ، كما يفعل أيتام واشنطن فى الحكومات والمعارضات إياها ، فحقائق الحياة لا تعترف بغير منطق القوة ودوراتها ، ولا مكان للضعفاء تحت نور الشمس ، وكل فراغ تتركه خلفك يحتله غيرك ، وقد وجدت إيران فى الربع العربى الخالى فراغا مغريا فاحتلته ، ولم تكن مجرد مصادفة وقت ، أن ثورة الخمينى قامت فى العام 1979 ، وهو نفس العام الذى عقدت فيه ما تسمى معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية ، التى كانت فى وقتها إشارة ظاهرة لخروج مصر من خط المواجهة مع كيان الاحتلال الإسرائيلى ، فوق كونها بظروفها وتمهيداتها علامة أخيرة على نهاية المشروع القومى العربى ، الذى كانت تقوده مصر ، وهو ما أتاح لصانع القرار الإيرانى فرصة وراثة دور مصر فى المشرق العربى عموما ، وعلى خطوط الصدام مع إسرائيل بالذات ، وتقوية ارتباطها ودعمها بالمال والسلاح لحركات المقاومة اللبنانية والفلسطينية الإسلامية بالذات ، وهكذا تخفت طهران بمطامعها القومية الفارسية الأصلية ، وصنعت لنفسها صورة القيادة الممانعة لاستسلام حكومات المنطقة ، ثم كانت قفزة النفوذ الإيرانى الكبرى ، بعد دعم حكومات الخليج الثرية للمجهود الحربى الأمريكى ، وتحريضه على احتلال العراق فى غزوة 2003 ، وتحطيم الدولة العراقية جيشا وإدارة وتكوينا واقتصادا ، وهو ما انتهى إلى فراغ مضاف واسع مجاور ، تمددت فيه القوة الإيرانية ، وحصدت ثمار الاحتلال الأمريكى المدعوم خليجيا ، وكسبت نفوذا مسيطرا ، توسع بعدها إلى سوريا ، مع الحرب الطائفية الكافرة التى دارت ، وطمست ملامح الهبة الشعبية السلمية الأولى التى انطلقت من “درعا” ، ودفعت بأشباح وكوابيس التنفير والتكفير إلى خشبة المسرح الدموى ، ومن وراء أقنعة دينية كذوب ، دعمها المال الخليجى بعشرات تلو عشرات المليارات من الدولارات ، ونافست فى همجيتها ووحشيتها جماعة بشار الأسد ، وإلى أن احترقت سوريا ودمرت وتمزقت شعبا وأرضا ، ولا تجد على أطلالها اليوم ، سوى جحافل الإيرانيين والروس والأتراك والأمريكيين ، بيما لاحس ولا خبر عربى هناك ، فقد صرف العرب الأثرياء أموالهم لخدمة الآخرين ، ولخدمة إيران بالذات للمفارقة ، ولعبوا أوراقا و”كروتا” هدت حيلهم ، وأنفقوا تلال المال على حروب تكفير الشيعة ، فخسروا الشيعة العرب فى المشرق والخليج ، وأضافوهم لحساب الرصيد الصافى لإيران الشيعية ، فالتشيع “الصفوى” فى إيران ليس محض نزعة دينية ، بل قضية تماسك داخلى ، فى بلد متعدد القوميات والأعراق البلوشية والآذرية والكردية والتركمانية والعربية وغيرها ، بينما لا تمثل القومية الفارسية سوى مايزيد قليلا على ثلث إجمالى السكان ، ولم تكن للهيمنة الفارسية على مصائر طهران أن تتم ، سوى من خلال تشيع دينى خاص ، جرى فرضه منذ عهد الشاه إسماعيل الصفوى “الآذرى” فى أوائل القرن السادس عشر الميلادى ، وصار يشمل نحو تسعين بالمئة من كل القوميات الإيرانية اليوم ، ويجعل المرشد الأعلى على خامنئى ذى الأصول الآذرية ، فى وضع مبعوث السماء و”الولى الفقيه” ، ونائب الإمام المهدى الغائب حتى يعود فى الأساطير الدينية ، بينما الواقع ينتهى إلى شئ آخر ، يجعل خامنئى إمبراطورا فارسيا مطلق السلطات ، برغم جنسه “الآذرى” ، فالتشيع “الصفوى” إلى التشيع “الخمينى” ، هو الصورة المقنعة الأحدث لهيمنة القومية الفارسية وبعث امبراطوريتها القديمة .

  وكما تمددت القومية الفارسية الإمبراطورية الجديدة  فى فراغ تركه العرب ، فإن تحجيمها أو تقليصها يحتاج إلى عروبة من نوع مختلف ، إلى عروبة الحضارات لا عروبة الصحراوات ، وتلك قصة أخرى على أى حال .

 

 المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى