شهدت منطقة الشرق الأوسط في الأسابيع القليلة الماضية حدثين على جانب من الأهمية: إزاحة نتنياهو عن السلطة في إسرائيل، بعد فشله في تشكيل حكومة جديدة برئاسته، ونجاح نفتالين بينت في تشكيل حكومة برئاسته، مدعومة بثمانية أحزابٍ لا يجمع بينها شيء سوى الرغبة في إزاحة نتنياهو بعيدا عن مشهد سياسي إسرائيلي تربع على قمته وحيدا فترة أطول مما ينبغي. فوز إبراهيم رئيسي، المحسوب على التيار المحافظ والمقرّب من المرشد الأعلى شخصيا، في انتخابات رئاسية جرت في إيران، وفي وقت بالغ الحساسية، كانت فيه المفاوضات الخاصة بعودة الولايات المتحدة الأميركية إلى اتفاق البرنامج النووي الإيراني توشك على الوصول إلى خط النهاية.
لكل من الحدثين نتائج وتداعيات متباينة إلى حد التناقض، فالأول أفرز حكومة إسرائيلية هشّة وغير قابلة للاستمرار فترة طويلة، الأمر الذي قد يفاقم من حالة عدم الاستقرار السياسي التي تشهدها الساحة الإسرائيلية منذ سنوات. أما الثاني فيتوقع أن يفرز حكومةً متماسكةً قادرة على أن تضفي على الوضع السياسي الداخلي في إيران قدرا أكبر من الاستقرار، تبدو فيه مختلف مؤسسات الدولة ملتفةً حول شخص القائد أو المرشد الأعلى، الأمر الذي قد يساعد على اختفاء الفجوة التي كانت تظهر، من وقت إلى آخر، بين التيارين، الإصلاحي والمحافظ، وتتسبب أحيانا في اضطراباتٍ سياسيةٍ، يسهل على القوى المناوئة للنظام الإيراني في الداخل والخارج استغلالها.
حالة عدم الاستقرار المتفاقمة في إسرائيل قد تدفع حكومتها الضعيفة والهشة إلى مزيد من التصلّب في سياستها الخارجية، أملا في سحب البساط من تحت أقدام معارضة يمينيّة متربّصة، يقودها رجلٌ ما تزال تراوده أحلام العودة إلى مقاعد السلطة، وهو ما بدأ يظهر بوضوح من خلال مواقف حادّة ومتعنتة، اتخذتها الحكومة الإسرائيلية الجديدة عقب إعلان تشكيلها مباشرة، سواء تجاه الفلسطينيين أو تجاه إيران. أما حالة الاستقرار المتنامية والمتوقعة في إيران، فقد تؤدّي إلى مزيد من الثقة بالنفس، قد يترجم إلى مواقف معتدلة في سياسة الخارجية، خصوصا فيما يتعلق بالانفتاح على دول الجوار العربي. ففيما يتعلق بموقف الحكومة الإسرائيلية الجديدة من القضية الفلسطينية، يُلاحظ أن تصريحات المسؤولين الإسرائيليين، على اختلاف مستوياتهم، توحي بأن حكومة بينت بصدد بلورة مقاربة جديدة تقوم، من ناحيةٍ، على محاولة التقارب إلى أقصى حد ممكن مع سلطة رام الله، أملا في دعم موقفها في مواجهة حركة حماس. ومن ناحية أخرى، على ممارسة سياسة الضغوط القصوى على فصائل المقاومة المسلحة، أملا في إضعاف موقفها في مواجهة السلطة، وحرمانها من قطف أي مزايا أو ثمار تعتقد هذه الفصائل أنها تمكّنت من حصدها في جولة المواجهة العسكرية أخيرا، غير أن فرص نجاح هذه المقاربة الجديدة تجاه الفلسطينيين تبدو ضعيفة جدا لأسباب عديدة. فمن ناحيةٍ، ليس لدى حكومة بينت ما تقدّمه لضمان استعادة سلطة رام الله ثقة الشعب الفلسطيني فيها، وأقصى ما قد تستطيع أن تقدّمه لها في هذا المجال اتخاذ إجراءات رمزية، من قبيل الإصرار على أن يكون إعمار قطاع غزة تحت إشرافها، أو العمل على تمكينها من التحكّم في عملية توزيع المنحة القطرية على سكان القطاع، أو عدم الاعتراض على تقديم الولايات المتحدة بعض المنح والمساعدات المالية للسلطة، أو إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن .. إلخ. فمن الواضح أن هذه الإجراءات الرمزية لا تكفي أبدا لتمكين السلطة الفلسطينية من استعادة هيبتها ومكانتها، خصوصا وأنه يتوقع أن تضغط عليها الحكومة الإسرائيلية الجديدة بكل قوتها، لإجبارها على مواصلة التعاون الأمني في كل الظروف والأحوال. ولأن من المستبعد توقع أن تتبنّى الحكومة مواقف سياسية أكثر مرونة، تسمح بانطلاق مفاوضات فلسطينية إسرائيلية واعدة تحيي الأمل في قرب حصول الشعب الفلسطيني على الحد الأدنى من حقوقه المشروعة، فسرعان ما سيتكشف أمام الجميع أن الهدف الحقيقي لخطوات دعم السلطة الفلسطينية في مواجهة حركة حماس هو مواصلة دق الأسافين بين الفصائل الفلسطينية، ووضع العراقيل أمام أي احتمالاتٍ لإتمام المصالحة الفلسطينية. على صعيد آخر، من المشكوك فيه أن تؤدّي السياسة الإسرائيلية الرامية إلى ممارسة أقصى الضغوط على “حماس” إلى إضعاف شعبية هذه الأخيرة، والحيلولة دون التفاف قطاعاتٍ عريضةٍ من الشعب الفلسطيني حولها، بل وربما تؤدّي، على العكس، إلى دفع الأمور نحو حافّة الهاوية، واشتعال المواجهة العسكرية من جديد، وهو ما لا تريده الولايات المتحدة، أو أي من القوى الإقليمية المعنية، والساعية إلى قدرٍ من الاستقرار في هذه المرحلة.
وفيما يتعلق بموقف الحكومة الإسرائيلية الجديدة من إيران، يلاحظ أن التصريحات الصادرة عن المسؤولين في هذه الحكومة، وبالذات على لسان رئيسها بينت، كانت مدفوعةً بالرغبة في إثبات أن موقفها تجاه إيران لا يقل صرامةً عن موقف حكومات نتنياهو المتعاقبة، وأن سياستها تجاه البرنامج النووي الإيراني ثابتة. كما يُلاحظ أن بينت سارع إلى انتهاز فرصة فوز رئيسي في انتخابات الرئاسة الإيرانية، لشن حملة ضارية على شخصه، ناعتا إياه بالقاتل والمجرم، ولتأليب الرأي العام العالمي على الحكومة التي سوف يشكلها، متوقعا أن تكون من أكثر الحكومات الإيرانية تطرّفا وحرصا وإصرارا على تحويل إيران إلى دولة نووية مهما كان الثمن. ويستشفّ من هذه التصريحات أن حكومة بينت شرعت بالفعل في التحرّك على خطين متوازيين تجاه إيران: حشد قوى اللوبي الصهيوني وتعبئتها، خصوصا في الداخل الأميركي، لاستخدام كل ما لديه من نفوذ ووسائل ضغط للحيلولة دون عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق عام 2015، أو على الأقل، الإصرار على توسيع نطاقه، ليشمل برنامج إيران الصاروخي ونفوذها الإقليمي. الإيحاء بأن إسرائيل لن تتردّد في اتخاذ كل الوسائل التي تراها ضرورية، بما في ذلك الوسائل العسكرية إذا لزم الأمر، لإجهاض برنامج إيران النووي وشلّ قدرتها على تصنيع السلاح النووي، في الوقت الراهن وفي المستقبل، حتى لو اضطرت للعمل منفردة وبدون تشاور مسبق مع الولايات المتحدة.
تلك سياسة تتعارض كليا مع ما تريده الإدارة الأميركية الحالية، ومع سياستها الراهنة تجاه إيران، ومن ثم يتوقع أن يؤدّي الإصرار عليها إلى الدخول في صدام مباشر مع الولايات المتحدة. صحيحٌ أن إدارة بايدن ظلت، حتى اللحظة الأخيرة، تسعى إلى إقناع إيران بتوسيع نطاق الاتفاق القديم، ليشمل البرنامج الصاروخي والقضايا الإقليمية، غير أن آمالها على هذا الصعيد راحت تتلاشى تدريجيا، وأظن أنها انتهت الآن تماما، خصوصا بعد فوز رئيسي في انتخابات الرئاسة الإيرانية أخيرا. مع ذلك، أظن أن إدارة بايدن ما تزال مقتنعةً بأنه ليس أمامها من بديلٍ آخر سوى العودة إلى اتفاق 2015 كما هو وبدون أي تعديل، باعتباره الوسيلة الوحيدة المتاحة لمنع إيران من تصنيع السلاح النووي، أو على الأقل لحمْلها على تأجيل هذا الاحتمال إلى أبعد مدى زمني ممكن. وفي تقديري، أقصى ما يمكن أن تحصل عليه إدارة بايدن من إيران في المرحلة الراهنة هو وعد عام، وليس التزاما مقنّنا، بأن تتبنّى مواقف أكثر مرونةً تجاه أزمات المنطقة فور رفع العقوبات، وبأن تنفتح أكثر على دول الجوار، سعيا وراء البحث عن تسوياتٍ متوازنةٍ لهذه الأزمات.
في سياق ما تقدّم، يمكن القول إن المنطقة تتجه بسرعة نحو مفترق طرق جديد، ستحدد المفاوضات الدائرة مع إيران في فيينا الآن وجهته، فإذا أسفرت عن عودة الولايات المتحدة إلى اتفاق 2015، ومن ثم رفع العقويات المفروضة على إيران، ستسلك منطقة الشرق الأوسط طريقا يمكن تلخيص أهم معالمه على النحو التالي:
– شرق أوسط تبدو فيه إيران دولة قوية متماسكة، لديها علاقات تتحسّن باطراد مع الولايات المتحدة الأميركية، ومنفتحة على جيرانها في الوقت نفسه، ويدرك الجميع أنها تمتلك قدرة واضحة على التأثير في مصير معظم الأزمات المشتعلة في المنطقة، بدءا باليمن، وانتهاء بالأراضي الفلسطينية المحتلة، مرورا بالعراق وسورية ولبنان.
– حكومة إسرائيلية غير مستقرّة، قد تجد نفسها مضطرّة لتبني مواقف خارجية متطرّفة، خصوصا تجاه إيران وسورية وحزب الله وفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة، الأمر الذي يعرّضها للدخول في خلافاتٍ حادّة مع الولايات المتحدة الأميركية، قد تعجّل بسقوطها، والدخول من جديد في لعبة انتخابات مبكّرة لن تسفر سوى عن تعميق المأزق الإسرائيلي.
أما إذا فشلت مفاوضات فيينا، فلن يكون أمام الولايات المتحدة سوى الاختيار بين بديلين: الاستمرار في ممارسة سياسة الضغوط القصوى على إيران، مثلما كان عليه الحال في عهد ترامب، و/أو تصعيد الضغط العسكري على إيران. وفي هذه الحالة، ستسلك المنطقة طريقا أهم معالمه: حكومة إيرانية متماسكة في الداخل، لكنها واقعة تحت حصار دولي وإقليمي محكم، ومن ثم فقد تجد نفسها مضطرة إلى انتهاج سياسة حافة الهاوية. حكومة إسرائيلية هشّة، لكنها قادرة على الحياة والبقاء، بالادّعاء بأنها نجحت في منع الولايات المتحدة من العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وبفضل هامش المناورة الذي أصبح متسعا أمامها للتنسيق مع الولايات المتحدة، ومع أطرافٍ عربيةٍ عديدةٍ لتشديد الحصار المضروب، وإحكامه، ليس فقط حول إيران، وإنما أيضا حول محور المقاومة ككل، بما فيها المقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة حماس.
وفي ظن الكاتب أن السيناريو الأول، أي العودة إلى الاتفاق النووي، وهو السيناريو الأرجح لحسن الحظ، وحده القادر على فتح الطريق أمام تسوية سلمية لأزماتٍ عديدة في المنطقة. أما الثاني، أي سيناريو إفشال هذه العودة، فسوف يؤدّي ليس فقط إلى تكريس واقع المنطقة المأزوم، وإنما أيضا إلى تمهيد الطريق أمام حرب إقليمية واسعة النطاق.
المصدر: العربي الجديد