في عام 2013، أصدرت السلطات المصرية قرارا مباغتا منعت فيه السوريين من الدخول إلى الأراضي المصرية بدون الحصول على موافقة أمنية مسبقة، تلك الفترة كانت مصر الملجأ الأول للهاربين من الحرب السورية ومن النظام، إذ كان السوري على مدى تاريخ طويل من العلاقات المتبادلة يدخل الأراضي المصرية دونما حاجة إلى تأشيرة دخول مسبقة، مما جعلها مقصداً للسوريين، خصوصا عامي 2012 و2013، حتى إن مكاتب الائتلاف المعارض كانت في أغلبها موجودة في القاهرة، كذلك معظم مؤتمرات المعارضة السورية تلك الفترة عقدت فيها، هذا ما جعل عددا كبيرا من السوريين يقررون الاستقرار بها مع عائلاتهم، وكانوا يسافرون ويعودون، دون أية مشكلة، حتى صدور القرار.
حين صدر القرار كان هناك الكثير من السوريين المستقرين في القاهرة مسافرين خارجها، وعادوا ليلة صدور القرار، الذي تم تطبيقه لحظة صدوره دون إنذار مسبق، وصلوا إلى مطار القاهرة قادمين من عدة دول ولم يسمح لهم بالدخول، مئات السوريين ومنهم أطفال ونساء، حجزوا في مطار القاهرة تلك الليلة ولم يتمكنوا من الانضمام إلى عائلاتهم المنتظرة في القاهرة، كان المحامي هيثم المالح وزوجته وابنه من ضمن هؤلاء، ما جعل السوريين المحجوزين في مطار القاهرة يتفاءلون بالخير، إذ أن هيثم المالح كان وقتها رئيس الدائرة القانونية في الائتلاف السوري المعارض في القاهرة، وكان لقبه (شيخ الحقوقيين السوريين) يوحي بالثقة، فعمله الحقوقي يجعل منه نصيراً لمن تعرض لظلم ما، توقع السوريون يومها أن مسألة احتجازهم في المطار سوف تحل قريباً دون إعادتهم إلى البلدان التي جاؤوا منها، إذ أن شيخ الحقوقيين الذي احتج على الحدث كان يقوم باتصالاته بالمسؤولين المصريين الذين يعرفهم.
كان بعض السوريين في المطار ينقلون الأحداث كما هي على صفحاتهم الافتراضية، وفعلا أثمرت جهود شيخ الحقوقيين في الاتصالات، وسمح له ولزوجته ولابنه في الدخول إلى القاهرة، تاركا خلفه مئات السوريين في المطار لا يعرفون ماذا يفعلون، ومئات العائلات في مصر التي تنتظر معجزة رئيس الدائرة القانونية في الائتلاف المعارض، الذي قال لأحد المحتجين على تركه لهم يواجهون مصيرهم: “كل واحد يدبر حاله”، وغادر مع صحبه مطار القاهرة متوجها إلى منزله ومكتبه ليواصل نضاله في سبيل نيل السوريين حريتهم، وإسقاط النظام السوري الذي كان يتصرف مع السوريين (خارج دائرته) كما لو أنهم سقط متاع، يقتلهم، يشردهم، يحاصرهم، يعتقلهم، يهدم مدنهم وبلداتهم، يفعل ما يشاء بهم، فهو مالك المزرعة وهم أجراء لديه، وهو ما كان شيخ الحقوقيين والائتلاف يناضلون لتغييره.
تلك الحادثة في مطار القاهرة، كانت ربما هي الدليل الأكثر وضوحا، عن الذهنية التي تحكم الكثير من قيادات المعارضة والانتلجنسيا السورية، الذهنية التي استطاع استبداد النظام تكريسها وتعميمها حتى باتت نسقاً عاماً، لم يشذ عنه سوى قلة قليلة من المعارضة، الاستعلاء على السوريين، والاستفراد بالقرار والتصرف، ومحاولة الاستيلاء والسيطرة على كل مواقع القرار والمسؤولية، حتى لو كان ذلك على حساب تضحيات السوريين، والاستفادة من المميزات المتاحة للمعارضين ومحاولة الاستئثار بها، وهو ما طفح إلى العلن لاحقا، من خلال الفساد المالي والإداري والسياسي، ومتاجرة البعض بقضايا اللاجئين في المخيمات والمعتقلين لدى النظام ولدى الفصائل الإسلامية المسلحة، واللاجئين والمعتقلين هم الوحيدون الذين دفعوا الأثمان الباهظة التي قدمت للثورة، بينما كانت قيادات المعارضة مشغولة بخلافاتها وتحزباتها وولاءاتها، وكلها كانت أجندات تصب في صالح الثورة المضادة، وتتعارض كليا مع أهداف الثورة السورية وشعارات التغيير نحو الدولة الديموقراطية المدنية العادلة.
وهنا ربما لا بد من أن نتذكر شخصيات مغيبة حتى اللحظة ومجهولة المصير، شخصيات معارضة وطنية تآمر الجميع على تغييبها، نظاما ومعارضة، الدكتور عبد العزيز الخير الذي اختطفه النظام أثناء عودته من الخارج على طريق المطار مع رفاق له يوم 16/ 10/ 2012، والمحامية رزان زيتونة وثلاثة من رفاقها في 9/ 11/ 2013، أي بعد عام على اختفاء عبد العزيز الخير ورفاقه، فإذا كان اختفاء الخير تم على يد النظام بعد أن تم التعرض له مرارا بتخوينه من قبل الكثير من معارضي الائتلاف وعلى وجه الخصوص (الإخوان المسلمون)، فإن رزان ورفاقها قد تم خطفهم من مدينة دوما في ريف دمشق، بعد رفضهم مغادرة سوريا وإصرارهم على البقاء في الغوطة لإكمال عملهم الحقوقي ونضالهم السلمي رغم التهديدات المستمرة التي كانت تصلهم.
اتهمت قيادات جيش الإسلام بالوقوف وراء اختطاف رزان ورفاقها، كونها الجهة التي كانت تسيطر تماما على دوما وعلى منطقة الغوطة الشرقية، تلك القيادات التي رفضت الاعتراف باختطافهم رغم العديد من التسريبات من قلب دوما التي فضحت عملية الاختطاف وكشفتها، رزان زيتونة المحامية الشابة الناشطة سبق لها أن عملت في مكتب شيخ الحقوقيين قبل الثورة، وتركت العمل معه على إثر خلاف يعرفه المقربون منهما، وتم الحديث عنه خلال الأيام الماضية، ما كشف عن وجه جديد لا يعرفه الكثير من السوريين عن شيخ الحقوقيين هيثم المالح، الذي يستضيفه تلفزيون سوريا هذه الفترة في برنامج الذاكرة السورية، والذي لا يخفي فيه المالح نرجسيته وتعاليه، بل لنقل الاضطراب في شخصيته الذي يوحي له أنه قائد الثورة السورية، وأنه هو الذي جعل المجتمع الدولي يلتفت إلى سوريا، لابأس، فليستمتع بما يدعيه عن نفسه، فهذا لن يضر أحدا غير صورته أمام الآخرين، ويبدو أنه غير معني برأي الآخرين به، لكنه تكلم في البرنامج ذاته عن رزان زيتونة، وقال بحقها كلاما يجب أن يحاسب عليه فعلا، لو كان هناك عدالة، وتكلم عن مصيرها دون أدنى إحساس بالمسؤولية لا أمام عائلتها وعائلات رفقائها، ولا أمام السوريين جميعا، ولا حتى أمام شرف المهنة التي ينتمي لها، والتي تحتم عليه أن يكون دقيقا ويقدم إثباتات موثقة، وأن يكون مسؤولا عما يقوله، لا أن يلقي كلاما على عواهنه، ويفرض ما يقوله علينا بوصف ما يقوله بوصفه جزء ا من الذاكرة السورية الجمعية.
لا مثيل لما نحن، السوريين، فيه حتما، لا يشبه ما وصلنا إليه من الحضيض أحدا، لا لدى النظام ولا لدى المعارضة، لم يترك أحد منهما شيئا في سوريا إلا ودمره عن بكرة أبيه، المجتمع والطبيعة والحجر والبشر والحضارة والبنية النفسية للسوريين والحاضر والمستقبل، كل ما يتعلق بسوريا قد تم التنكيل به وتهشيمه تماما، وكأن قوة جبارة تريد الانتقام من هذا البلد البائس والتشفي به تماما، لم يبق من سوريا إلا ذاكرة السوريين التي سوف تروي ما حدث ويحدث، نرجوكم نرجوكم دعوها سليمة، لا تلوثوها بأمراض الاستبداد نفسها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا