وسط احتدام المناظرات بين المرشّحين للرئاسة الإيرانية، خرج الناطق باسم الحكومة ليقول إن مفاوضات فيينا لن تتأثّر بتغيير الرئيس، فالمرشد علي خامنئي هو صاحب القرار في السياسة النووية. كان الكلام موجّهاً الى القوى الدولية المعنية، ولم يجد الناطق ضرورة لإضافة أن للمرشد القرار في كل شيء، عملياً، وأنه يستأنس حصرياً بمشورة “الحرس الثوري”، فهذا ما بات الجميع يعرفه داخل إيران وخارجها. لكن، في الداخل، يعرفون أكثر أن سياسات المرشد عَنَت وتعني منذ 2006 عقوبات أنهكت الاقتصاد وعطّلت التنمية وعمّقت الأزمة المعيشية والاجتماعية. لم ينسَ أحد أن احتجاجات 2017 و2019 رفعت الصوت ضد منظومة الحكم، بمن فيها خامنئي وحسن وروحاني، وضد التدخّلات المكلفة تحت شعار “المقاومة”، من غزّة الى لبنان مروراً بسوريا.
لا يبدو استحقاق الجمعة 18 حزيران (يونيو) حدثاً يعوّل عليه الإيرانيون. لم تقتصر هندسة الانتخابات على حصر المنافسة بين المحافظين، وعلى تسمية الرئيس التالي إبراهيم رئيسي باعتباره مَن يفضّله المرشد فحسب، بل استبعدت المرشّحين الإصلاحيين وناخبيهم. لم يأخذ مجلس صيانة الدستور في اعتباره أن مقاطعة التصويت بلغت 57 في المئة العام الماضي في الانتخابات التشريعية، وأنها مرشّحة للارتفاع في الرئاسيات. فعدا خيبة أملهم من الإصلاحيين والمحافظين على السواء، لم يعد النظام نفسه مقبولاً ولا جذّاباً لدى الناخبين طالما أن عمادَيه، المرشد و”الحرس”، أصبحا صنوَين للعقوبات.
هذا الانحدار بدأ غداة تزوير نتائج انتخابات 2009 واستمرّ، ولم تكن حقبة روحاني سوى تمرين على إنهاك من يُسمّون “إصلاحيين” وتجريف كل أثر ونفوذ لهم في سياسات المرشد وتطبيقها ومحاولة بثّ أي منحى ليبرالي فيها.
كان روحاني ووزيره محمد جواد ظريف محاربَين مدافعَين عن النظام من داخله، وليسا معارضين بالمعنى المتعارف عليه. أُوحي إليهما أو توهّما أن المرشد أرادهما كـ”إصلاحيَين”، وعندما تمكّنا من إحراز الاتفاق النووي اعتقدا أن بإمكانهما تجيير هذا النجاح لتيارهما، ثم أدركا متأخّرين أنهما مجرّد جوادَين يعدوان في مسارَين محدّدَين لا يفضيان الى أي تغيير.
لم يكن الاتفاق النووي مخصصاً فقط للتخلّص من العقوبات وانتزاع “شرعية” دولية للنظام، بل معاهدة ينبغي البناء عليها سياسياً واقتصادياً لتثبيت انتقال إيران من عقلية الثورة الى عقلية الدولة، لكن ثنائي المرشد – “الحرس” كانت له أهداف أخرى، وإرادتهما هي النافذة. لذلك سُرّبت الوصية السرّية لظريف لتُستخدم ضدّه، أي لحرقه، ومَن كانت موجّهة إليهم ليستفيدوا من “الخبرة” التي تقدمها هم الذين سرّبوها، للقول إنهم في غنىً عن شهادة تشكو من تدخّل العسكر في صنع السياسة الخارجية.
لم تكن ردود روحاني على انتقادات المرشّحين الرئاسيين بعيدةً عما ذهب إليه ظريف. تحدّث عن “كذب” و”تحريف” للحقائق و”سوء أخلاق”، وحذّر من “التلاعب بعقول الناس”، وكانت شكواه مشوبة بمرارة الإفشال المتعمّد لحكومته وللتيار الذي يمثّله. لم يتح لهذا التيار أن يحكم أو يؤثّر في الاستراتيجيات، بل إن حكومة روحاني حُمّلت أوزار العقوبات ودُفعت الى اتخاذ قرارات غير شعبية، ومع ذلك تفانى رئيسها في الدفاع عن نظام رماه باكراً بعدما استخدمه. كانت مناظرات المرشّحين عبارة عن مباريات في النفاق في شأن الاقتصاد، إذ إنهم من جهة يلقون كل اللوم على العقوبات ويطالبون برفعها في مفاوضات فيينا، لكنهم في المقابل يتبنّون الرواية الرسمية القائلة إن العقوبات فشلت وكُسرت وما الأزمة الاقتصادية إلا سوء إدارة حكومية. ليس بين المرشّحين مَن يملك خطة للاقتصاد أو يستطيع صنع معجزات، وإذا أمكن لإيران أن تستعيد أموالاً جراء رفع العقوبات، فإن الحكومة المقبلة لا تعرف ما إذا كان المرشد و”الحرس” سيتيحان استخدامها لإنعاش الاقتصاد. مرّ روحاني بهذه التجربة في 2016، لكنه ينهي ولايته من دون أن يحدّد أيّ الاثنين أغرقه أولاً: خامنئي أم ترامب؟
بدا روحاني كمن ينعى النظام. ألم يتساءل “لماذا قمنا بالثورة إذا صحّ أن الـ 42 عاماً الماضية قامت على خرق القانون والفساد والعجز الإداري والاقتصادي؟”، ألم يقل “إننا لا يمكننا أن نعيش في عزلة ومن دون التعامل مع العالم”، ألم يُشر الى “إجراءات حمقاء وطفولية مثل الهجوم على المقار الدبلوماسية” ما حال دون “إقامة علاقات جيّدة مع بعض الجيران”، وكان يعني تحديداً الهجوم على السفارة السعودية.
وما لم يقله روحاني تولّى الإفصاح عنه المرشّح عبد الناصر همتي، الرئيس السابق للبنك المركزي، إذ التزم لغة الإصلاحيين آملاً في الحصول على أصواتهم وبدا كفلتة شوط انزلقت من خيارات مجلس صيانة الدستور.
سلّط همتي الضوء على الهوّة بين النظام والشعب، ولم يلجأ الى لغة خشبية في وصف تأثّر الوضع الاقتصادي بالعقوبات، لكنه لفت الى “مستفيدين” من الأزمة بـ16 مليار دولار، عارضاً بانوراما سوداء يمثل فيها الاحتكار والفساد والقبلية والعصابات والتضييق على الحريات وعلى أهل السنّة، مستخلصاً وجود “اختلاف ثقافي بين الأجيال”، أي أن ثمة مشكلة في الدعاية “العقائدية” للنظام، الى أن يقول إنه يقف “بوجه التيار الذي يسعى الى إقامة حسينية في البيت الأبيض، وبوجه من هاجموا السفارة السعودية، ومن خفّضوا قيمة العملة الوطنية”. كانت رسالته واضحة: الاقتصاد مريض، النمو يتراجع والتضخّم يرتفع، أضرار العقوبات ظهرت في انخفاض مبيعات النفط (برغم “إنكار” المرشّحين الآخرين)، و”الاستطلاعات تفيد بأن 60 الى 70 من قضايا البلاد هي اليوم قضايا معيشية”.
غالباً ما تكون المناظرات الانتخابية ساخنة ومثيرة، برغم أنها لا تؤذن بتغيير قادم، لكنها أظهرت هذه المرّة فجوة هائلة بين “ثنائي النظام” المتسلّط وعموم المجتمع، وعَنَت هندسة الانتخابات أن النظام لم يعد واثقاً ولا مهتمّاً حتى بديكور “ديموقراطي” مقيّد، فالمرحلة المقبلة هي لرصّ صفوف المتشدّدين وتكريس الدور البارز لـ”الحرس”. كانت وظيفة “الإصلاحيين” تمويه تلك الفجوة وتجميل صورة النظام، لكنه حسم الأمر بالتخلّي عنهم نهائياً. وفيما يظهر المحافظون مسيطرين على المشهد ومتأهبين لاستكمال الهيمنة على الرئاسة، بعد مجلس الشورى وسائر المؤسسات، إلا أنهم لن يجتذبوا الناخبين حتى لو حصلوا على رفع لبعض العقوبات كـ “هدايا” صغيرة من جو بايدن.
المصدر: النهار العربي