قراءة في كتاب النهضة المعاقة (1)
لم يكن وصول حافظ الأسد إلى السلطة وليد خلافات حزبية، أو بسبب قرار المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي لحزب البعث الذي عقد أوائل تشرين الثاني من عام 1970 بتنحيته، وبعض أنصاره الضباط عن مراكزهم القيادية، بل أتى وفق تخطيط مسبق، وعمل متأن دقيق يقوم على مبدأ خطوة تتبعها أخرى، ما ينم عن شخصية غامضة مراوغة في سلوكها لغاية اقتناص السلطة والتفرد بها! ذلك ما تقوله القراءة المتأنية لمذكرات الدكتور “حبيب حداد” التي جاءت تحت عنوان: “النهضة المعاقة” وهي مذكرات سياسية ترصد مرحلة مهمة من مراحل تاريخ سوريا الحديث وعرفت كمصطلح سياسي، بجماعة صلاح جديد، أو بـ “البعث اليساري” وقد اتهمها بعض حكام المنطقة بالشيوعية، وعملوا ضدها، ثم أتى حافظ الأسد مرحَباً به ومدعوماً من هؤلاء، للخلاص من تلك المجموعة التي تهدد هدوء المنطقة وسكونها.. إنها حركة 23 من شباط 1966– 1970 يتناولها الكتاب بكثير من الدقة والتفصيل، ومن خلال قصصٍ ووثائق وعِبَرٍ سياسيةٍ! نتناول منها هنا ما ورد عن شخصية حافظ الأسد المراوغة! فالاطلاع عليها يعين على فهم ما آلت إليه سوريا اليوم..
كان الدكتور حداد مؤلف “النهضة المعاقة” في عشرينيات عمره عندما انتخب عضواً في القيادة القطرية لحزب البعث منذ عام 1965 حتى انقلاب حافظ الأسد أواخر عام 1970 ليعيش هجرة المعارضة السورية الأولى في المنافي ولا يزال.. والدكتور حداد من قرية “خبب” في محافظة درعا بدت عليه علامات النبوغ خلال دراسته الابتدائية، ولم يكثر الكتاب من الحديث عن حياة المؤلف الشخصية، فالكتاب مذكرات سياسية بامتياز ويركِّز في الدرجة الأولى على مرحلة 23 من شباط التي، رغم قصر بقائها، تعدُّ من أغنى مراحل تاريخ البعث، إذ إن المشاريع الاقتصادية الكبرى التي أنشئت في سوريا جاءت بمبادرة من قادة تلك المرحلة، وخصوصاً بعد قيام عسكر البعث بقطع طريق التنمية التي كانت البرجوازية الوطنية الصاعدة تقوم ببنائها في خمسينيات القرن الماضي، بينما كان هَمُّ ضباط البعث وحزبهم مركزاً على ترسيخ حكم البعث، وإنْ في القطر الشمالي فقط، بدا ذلك من خلال الخلاف الذي أخذ يظهر مع جمال عبد الناصر، بعد شهور قليلة، من إقامة الوحدة، ولذلك أخذ البعثيون يتحينون الفرص للخلاص من الوحدة، ولمّا وقع الانفصال، بعد شهرين فقط من قرار التأميم في 23 من تموز/يوليو عام 1961 كانت قيادة البعث التقليدية أول من وقَّع على وثيقة الانفصال مع سياسيين آخرين (يمينيين ويساريين) لكن البعث الذي قام بانقلابه على الانفصال لم يَعُدْ للحياة الديمقراطية التي كانت سائدة في خمسينيات القرن الماضي ورافقتها نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية، وأحزاب سياسية تنشط بحرية.. بل إن البعث توسَّع في مسألة التأميم الذي عرقل نمو الاقتصاد الذي كان يفتقر إلى كفاءات الإدارة وانعدام الحرص على المال العام وافتقاد روح المسؤولية، وغياب مبدأ المحاسبة.
وللحقيقة لم يكن هؤلاء الضباط راغبين بالوحدة بقدر ما كانوا متطلعين إلى السلطة، في وقت كان الصراع فيه على أشدِّه حول سوريا بين القطبين الرئيسين فيما يعرف بالحرب الباردة.. وهكذا انقلبوا على الرئيس المصري جمال عبد الناصر بعد أن كانوا رأوا فيه منقذاً، إذ تخلصوا من شركائهم الوحدويين في انقلاب آذار 1963 ثمَّ ليقوم حافظ الأسد بانقلابه بعد وفاة عبد الناصر بمدة خمسين يوماً فقط متحالفاً مع الأحزاب الوحدوية التي تشكلت بعد الانفصال وليعيق النهضة السورية/العربية التي كانت في أذهان أقطاب حركة 23 من شباط 1966 وقد بدئ بها فعلاً، كما يتضح من الكتاب الذي رصد أحداث ستينيات القرن الماضي الكبرى، وآلت منذ سبعينياته إلى تحجيم سوريا وشعبها، ودورها في المنطقة، ثم تدميرها على يد بشار الأسد ابن أبيه في سلوكه التدميري..
يكشف سياق الكتاب شخصية حافظ الأسد المراوغة/المناورة التي بيّنتها أفعاله بعد حركته الانقلابية إذ مارس عكس ما كان يعبِّر عنه من مواقف سياسية وتنظيمية حزبية ذكرها مؤلف الكتاب الذي عاش تفاصيلها.. ويذكر أنه أطلق لدى حركته الانقلابية على رفاقه جماعة 23 من شباط بالمجموعة المناورة/ المتسلطة.. والحقيقة فلم يعرف البعث مناوراً ومراوغاً ومتسلطاً كما حافظ الأسد…!
أولاً- إعفاء حافظ الأسد من المساءلة حول هزيمة حزيران
تبدأ الحكاية من إصرار حافظ الأسد على البقاء في منصبه وزيراً للدفاع رغم الهزيمة الفاجعة، ونحن الآن في شهر حزيران نعيش ذكراها الرابعة والخمسين، وحصادها المرّ كما تكشف عن مراوغته في انتقاداته التنظيمية، والسياسية، والتنموية التي كان يبديها في اجتماعات القيادة، ليعود إلى ممارستها بشدة وفظاعة بعد وصوله إلى السلطة، والبداية من مجيئه إلى اجتماع القيادة المكرَّس لمناقشة العمل بُعَيْدَ هزيمة حزيران التي يتحمل مسؤوليتها بالدرجة الأولى، إذ هو وزير الدفاع طالباً تجديد الثقة به، ليستطيع متابعة مهامه وبقية قيادة الجيش الذي (لم يحارب أصلاً!) وكان رأي صلاح جديد آنئذ أن تستقيل القيادة العسكرية بحسب العرف والمفاهيم السائدة في هذا المجال، وقد جرى تصويت عفوي، وسريع على اقتراحه، فسقط بأغلبية صوت واحد، وكان أن ساد في الاجتماع مناخ طرد اليأس وشحذ الهمم وهكذا نال حافظ الأسد ما أراد، ليخرج أكثر قوة، وليذهب إلى زملائه الضباط واشياً بالقيادة وما كانت ستفعله بهم والغاية كسب ودهم للوقوف إلى جانبه حين تأتي فرصة الانقضاض على السلطة.. يشير إلى ذلك مؤلف كتاب “النهضة المعاقة” بقوله:
“إن وزير الدفاع نفسه (حافظ الأسد) قد أخبر الضباط الذين كانوا موضع المساءلة بأنَّ قيادة الحزب إنما تستهدف بهذا الإجراء تصفيتهم، وأنه سيتكفل بحمايتهم من أي مساءلة..” ص 76
ثانياً- موقفه من التنمية
وإذا كان حافظ الأسد قد أصر على البقاء في منصبه، رغم هزيمته النكراء، فكيف له أن يهتم بتنمية البلاد التي هي هدف الشعب السوري وغايته، بعد أن أُبعد روّادها الأوائل مع التأميم الذي بدأ عام 1961 وتوبع بعد انقلاب آذار 1963 وإذا كانت غاية التأميم إيجاد قاعدة اقتصادية لتكون أساساً لتنمية فعلية تمشياً مع ما كان سائداً حينذاك من أفكار فإن التأميم استغل لتثبيت أركان العسكر الانقلابيين.. يشير الدكتور حداد إلى رأي حافظ الأسد حول التنمية، وحول سد الفرات بالتحديد:
“إن الشخص الوحيد من أعضاء القيادة (حركة 23 شباط) آنذاك الذي كان يعارض مشروع سد الطبقة وغيره من المشاريع التنموية الحيوية، هو وزير الدفاع حافظ الأسد بحجة أن هذه المشاريع ستكون عرضة لتدمير العدو الإسرائيلي لها، ما دمنا في حالة حرب معه، ولذا لا يجوز تنفيذ أيِّ منها إلا بعد تحرير فلسطين.. لكن حافظ الأسد كما هو معلوم عاد بعد تنفيذ حركته الانقلابية إلى الادعاء بأنه هو وليس غيره الذي كان وراء تنفيذ تلك المشروعات وأنه انسجاماً مع هذه الحقائق كان الأمر الطبيعي أن تسمى باسمه!” ص 39
إن أبسط تعليق حول هذا الأمر لا الكذب أو المراوغة، بل هو الجهل بمحتوى الصراع بيننا وبين إسرائيل على المدى البعيد، فالتنمية أهم مصدر من مصادر القوة وتأكيد الحقوق.. وقد جاءت الأحداث لتؤكد موقفه السلبي من القضية الفلسطينية إذ هو في العمق لا يريد الحرب، ولا التنمية.. إنه يريد سلطة على حجمه وحجم مواليه، يريد مزرعة لا وطناً وهكذا كان وقد بقي فيها ثلاثين عاماً، وورّثها، وهو ميت، لابنه..
ثالثاً- الموقف من دعم منظمة التحرير الفلسطينية
أما تحرير فلسطين الذي تعلل به وبرر موقفه ضد مشروع الفرات فقد برز خلال أول موقف له تجاه منظمة التحرير الفلسطينية التي أعلنت عن نفسها عام 1964 وأخذت الآمال تعلق عليها في إيجاد حلول للقضية الفلسطينية بما في ذلك التحرير.. ففي الثلث الأخير من شهر أيلول اندلع قتال بين الجيش الأردني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، وكان تلكؤ حافظ الأسد في تلبية تقديم المساعدة، وتعليله بعدم الجاهزية، ما يعني أنه ضد قرار قيادته السياسية وبالتالي ضد تقديم المساعدة للفدائيين الفلسطينيين.. وما أورده كتاب “النهضة المعاقة” يؤكد ذلك يقول مؤلف الكتاب:
“كان اجتماع القيادة هذا على ما أذكر صباح يوم الخميس. وكان قرارها يشدد على التدخل العاجل دون أي تأخير لا مبرر له، كما أنَّ انسحابها وعودتها ينبغي أن يتم بقرار من القيادة، وبعد استكمال مهمتها. غير أن وزير الدفاع حافظ الأسد قال: إن تجهيز القطعات العسكرية التي تنفذ هذه المهمة يحتاج إلى ثلاثة أيام على الأقل وهكذا فبعد ثلاثة أيام على قرار القيادة دخلت قوات الجيش السوري بقيادة المقدَّم “موسى العلي” إلى الأردن وتجاوزت مدينة إربد في توجهها جنوباً نحو عمان لفك الحصار عن قوات الثورة الفلسطينية، وقد قامت بتنفيذ هذه المهمة خلال يومين من تدخلها”. ص86.. (يتبع)
المصدر: موقع تلفزيون سورية