في صباح 5 حزيران/ يونيو 1967، حلّقت الطائرات الإسرائيلية، على ارتفاع منخفض جدًا، بعلوّ أمتارٍ قليلة فوق سطح البحر، لم يستخدم أيٌّ من الطيارين الإسرائيليين اللاسلكي، حتى لا تكشفهم الرادارات المصرية، كان ممنوعًا عليهم التحدث، صمت مطبق، سلاح الجو الإسرائيلي كله صامت، هدوء كامل. وصلت الطائرات إلى اليابسة المصرية، كان وقت إفطار الطيارين المصريين، كان بعضهم يحلق ذقنه، لم يرتدوا ملابسهم العسكرية بعد. حققت “إسرائيل” عنصر المفاجأة. كانت الخطة تقضي بقصف المطارات المصرية، نحو 40 مطارًا، قصف المدرجات أولًا، لمنع الطائرات من الطيران، ثم قصف الطائرات.
في اللحظة نفسها، كانت قيادة سلاح الجو في “إسرائيل”، ورئيس الأركان إسحق رابين، وقادة الجيش، والموساد، والحكومة الإسرائيلية، يعيشون لحظات قاسية من القلق والتوتر. كل دقيقة كانت دهرًا بحسب ما يروون في مقابلاتهم. يقول أحدهم: لم نكن نعلم شيئًا، كنا ننتظر فقط، خوف، ذعر، قلق، توتر، نتساءل: هل سيصلون إلى الأهداف؟ هل سيستطيعون قصف المطارات؟ نقول ونكرِّر، في ما بيننا، إذا دخلوا اليابسة المصرية من دون أن تكشفهم الرادارات، انتهت الحرب، هُزم العرب.
في الساعة السابعة و45 دقيقة و10 ثوان، تحدثت قيادة سلاح الجو الإسرائيلي إلى الطيارين، بعد انتظار طويل، وطلبت منهم التحدث.. افتحوا اللاسلكي.. هيا.. تحدّثوا.. هيا تحدثوا.. بدأت التقارير بالوصول، وبدأت القيادة تسمع الأخبار.. أصابوا.. نعم أصابوا.. دُمرت المطارات بحسب الخطة.. قال رافائيل في مركز القيادة: انتصرنا.. انتصرنا.. وبدأ العناق..
عادت الطائرات الإسرائيلية للتزود بالسلاح، ثم استأنفت قصف المطارات والطائرات.. موجة ثانية وثالثة ورابعة من الطائرات. قامت “إسرائيل” لمدة ثلاث ساعات بغارات جوية على مصر في سيناء والدلتا والقاهرة ووادي النيل، دمرت فيها 25 مطارًا حربيًا ونحو 85 في المئة من الطائرات المصرية وهي جاثمة على الأرض، ليخرج سلاح الجو المصري من المعركة منذ الساعات الأولى. كان راديو مصر في تلك اللحظات يقول: قصفنا تل أبيب.. أسقطنا 40 طائرة للعدو.. حيفا تشتعل..
لم تكتفِ الطائرات الإسرائيلية بقصف سلاح الجو المصري، بل قصفت أيضًا مطارات أردنية، في المفرق وعمان، وفي مساء 5 يونيو دمرت الضربات الإسرائيلية ثلثي سلاح الجو السوري، كما هاجمت القاعدة الجوية هـ3 في أنبار العراق. في الساعة 12 ظهرًا، أذاع راديو دمشق بلاغًا من القائد الأعلى للقوات السورية المسلحة، أعلن فيه دخول القوات السورية المعركة إلى جانب مصر، وقال: “إن سوريا تلتحم مع العدو الآن.. ولن تتراجع قبل إبادة الوجود الصهيوني إبادة كاملة”. أعلنت إذاعة دمشق إسقاط أكثر من 150 طائرة إسرائيلية، في حين صرح العدو أن سورية خسرت نصف طائراتها المئة، وأنه دمّر 416 طائرة مقاتلة عربية، لتفقد الجيوش العربية غطاءها الجوي، ولتصبح وحداتها العسكرية البرية ودباباتها ومدرعاتها فريسة سهلة للطيران الإسرائيلي.
قبل الحرب مباشرة، كان لدى الموساد أربعة أطنان ونصف من الورق الذي يحتوي معلومات عن الشرق الأوسط. راقب الموساد من خلال عملائه المطارات المصرية، والطائرات.. طريقة اصطفافها، اتجاهاتها.. وقدمت الولايات المتحدة المعلومات اللازمة من خلال وسائلها الاستخبارية والأقمار الصناعية.
في 16 آب/ أغسطس 1960، استطاع الموساد الإسرائيلي تهريب طائرة ميغ 21 من العراق. كانت بالنسبة إليهم كنزًا من المعلومات آنذاك. تعرفوا من خلالها إلى التكنولوجيا السوفياتية ومهارات الطائرة. طاروا عليها، طاروا معها، طاروا ضدها، وتعرفوا إلى نقاط ضعفها، كل طيار إسرائيلي جرّب التحليق بالميغ، حتى لا تكون لديهم مهابة تجاهها. هكذا يروي الطيارون والقادة الإسرائيليون في مقابلاتهم التلفزيونية.
يؤكد قادة سلاح الجو أن سلاح الجو الإسرائيلي قد عُزل عن الجيش الإسرائيلي. لم يعرف الجيش الأخضر شيئًا عن سلاح الجو، لم يتعرفوا إلى الطيارين الإسرائيليين إلا في 14 أيار/ مايو 1967 في أثناء الاحتفال بالذكرى 19 لقيام “إسرائيل”، أي قبل الحرب بثلاثة أسابيع فقط. آنذاك فقط عرف الجيش والإسرائيليون أن لديهم سلاح طيران.
كان الإسرائيليون يعيشون أسوأ حالاتهم في أيار/ مايو 1967، دخلوا في حالة رعب وخوف، حفروا قبورهم، هربوا إلى الخنادق. أحد الطيارين الإسرائيليين قال لأبيه الذي كان يحفر قبره: إذا حدث شيء أنت لن تعرف، لن يصل أحدٌ إلى تل أبيب، لن يقصف أحدٌ تل أبيب، لن يطير طيار عربي واحد، لكنه لم يصدق.
الجيش الإسرائيلي نفسه كان خائفًا باستثناء سلاح الجو: أمضينا اثني عشر عامًا ونحن نتدرب، أعطونا ستّ ساعات لنقضي على الجيوش العربية، سننهي الحرب مع مصر خلال ثلاث ساعات ثم سنقصف سورية. هكذا قال قادة سلاح الجو الإسرائيلي قبل الحرب بأسابيع قليلة. أجابهم رئيس الأركان: أنتم كذابون، هزيمة الجيش المصري غير ممكنة، نحن أمام حرب طويلة..
كان الطيارون الإسرائيليون وحدهم واثقين من النصر. فقد بدأت الفكرة في عام 1956، وأُقرّت في آذار/ مارس 1967، وطوال هذه المدة كان هناك تدريب دائم على خطة ضرب المطارات والطائرات العربية. 12 سنة وهم يتدربون، 12 ساعة يوميًا. تدربوا على الطيران المنخفض، تدربوا على رمي القنابل على المدرجات من زوايا مختلفة. كانوا يعرفون أن هذا سيحدث، لكن لا يعرفون متى.
بعد وقف إطلاق النار، قال رئيس الأركان الإسرائيلي إسحق رابين: إن الله خلق الأرض والسماء في ستة أيام، والجيش الإسرائيلي أخذ الأرض والسماء في ستة أيام. بعد ذلك، بدأت “إسرائيل” تحتفل. احتفلت “إسرائيل” كلها باستثناء سلاح الجو. لم يحتفل حزنًا على أربعة وعشرين طيارًا سقطوا في المعركة.
في صيف 1965، قبل الحرب بعامين، صرّح وزير خارجية “إسرائيل”، أبا أيبان، في مقالة نُشرت له بمجلة الشؤون الخارجية، بعنوان: الواقع والرؤيا في الشرق الأوسط – نظرة إسرائيلية، قائلًا “وليس من السخف أن نتصور قادة العرب يطالبون في المستقبل بإلحاح، بالعودة إلى حدود 1966 أو عام 1967، تمامًا كما يطالبون اليوم بالعودة إلى حدود 1947، تلك الحدود التي رفضوها في الماضي”.
أدّت الحرب إلى مقتل نحو عشرين ألف عربي، وتدمير ما يزيد على 400 طائرة، وما نسبته 80 في المئة من سلاح القوات البرية العربية، مقابل مقتل 800 إسرائيلي، وتدمير 2-5 في المئة من العتاد الحربي الإسرائيلي، و26 طائرة إسرائيلية. وأصبحت مساحة الأرض التي تسيطر عليها “إسرائيل” 89.359 كم مربع، أي زادت المساحة التي تسيطر عليها بنسبة 330 في المئة، إضافة إلى تشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين والمصريين.
في الساعة 7:45 صباحًا، الخامس من حزيران/ يونيو 1967، ربحت “إسرائيل” الحرب، وهزمت العرب جميعهم. لحظة الانتصار هذه كان خلفها علم وتخطيط وجهد، سياسي وعسكري واستخباري، ونظام سياسي يعكس إرادة شعبية. كانت أحوال العرب سيئة جدًا في 10 حزيران/ يونيو 1967، لكن أحوالهم اليوم أسوأ وأسوأ.. وأسوأ كثيرًا. ماذا فعلت الأنظمة طوال نصف قرن لتجاوز الهزيمة؟!
هذا جيش عدونا، وهذه طائراته. ماذا فعلت جيوشنا وطائراتنا؟ هُزمت في المعارك، استبدّت بالشعوب، قتلت البشر، نهبتهم، دمرت مدنهم، استولت على حياتهم وقهرتهم، نصف قرن وهي تتدرب على قهر الشعوب. انتصرت جيوشنا على شعوبها، وانتصر جيش “إسرائيل” على الجميع!
المصدر: المدن