اهتم المحللون في الفترة الماضية بالعراق في سياقه الإقليمي وبأنه بات يلعب دورا بعيدا بعد عزلة طويلة وعقود من التجاهل العربي والهيمنة الإيرانية-الأمريكية على البلاد وسطوة الميليشيات الوكيلة عن إيران. وقيل في حينه أن العراق يخط طريقه الخاص ليلعب دورا يحمي مصالحه بين جيران متصارعين، ومن هنا جرى الحديث عن لقاءات سرية رعتها بغداد بين إيران والسعودية لخفض التوتر بين البلدين.
حركة مهددة
ولكن المشهد العراقي أكثر تعقيدا وتشرذما، فالحركة الشعبية التي انطلقت قبل عامين مطالبة بالتغيير ورحيل إيران باتت ملاحقة ويتم اغتيال نشطاؤها على يد مسلحين. ومنذ عام 2019 قتل حوالي 80 ناشطا عراقيا، وفي تظاهرة عقدها الناشطون في ساحة التحرير ببغداد يوم الثلاثاء الماضي حمل الناشطون فيها يافطات كتب عليها «من قتلني؟». وترى صحيفة «نيويورك تايمز» (2/6/2021) أن التظاهرة تكشف عن الجذوة المشتعلة للحركة المطالبة بالتغيير وتلاشي قوتها في الوقت نفسه، فهي مثل حركات التغيير الأخيرة في الجزائر التي يتفكك فيها الحراك بفعل الملاحقة والظروف الناجمة عن فيروس وكورونا، وكذا الثورة الشعبية التي لم تعد قادرة على بناء زخم أمام تمترس العسكر، أما لبنان فيعيش بين دوامة الإنهيار المالي ومماحكات السياسيين وتهديدات السلاح.
وفي الحالة العراقية يأتي الهجوم على الناشطين ونقاد الجماعات الشيعية الموالية لإيران في ظل ملاحقة مستمرة لهم، وعجز للدولة عن فعل الكثير نظرا لسلطة الميليشيات العسكرية والسياسية، وهي سلطة ظلت مقيدة لأي رئيس وزراء عراقي، رغم ما بدا من محاولات مصطفى الكاظمي الذي جاء من المؤسسة الأمنية وخارج السياق المعروف في الحياة السياسية منذ الغزو الأمريكي ونهاية حكم صدام حسين.
ويقول المتظاهرون (علنا) والمسؤولون العراقيون (سرا) أنهم يعرفون من قتل الناشطين، فالميليشيات الشيعية المدعومة من إيران قامت بملاحقة وسحق الحركة الشعبية المطالبة بالتغيير وإنهاء الفساد وحملت إيران مسؤولية ما يحدث في البلد، ولأن أفراد الميليشيات يتبعون اسميا قوات الأمن العراقي، فإنهم يعملون بدون خوف من المساءلة أو العقاب. ومع ذلك تظل التظاهرة الأخيرة الأكبر منذ مظاهرة العام الماضي التي شهدتها بغداد والمدن الجنوبية في الذكرى الأولى لانطلاق الحركة عام 2019. ويدفع حركة التغيير الغضب على الحكومة وفشلها في تحقيق وعود الإصلاح بما فيها الحد من سطوة الميليشيات الموالية لإيران.
ومع ذلك تظل التظاهرة الأخيرة أقل عددا مما توقع المنظمون وذلك بسبب موجات من الاغتيال والاختطاف والاستفزاز للناشطين. وقال أحد المنظمين الذين شاركوا في تظاهرات الحركة منذ بدايتها إنهم توقعوا مشاركة أكبر لكن الناس خائفين على أنفسهم ومن خسارة وظائفهم. وقال آخر إنه تعرض للتهديد من جماعة مسلحة قبل ثلاثة أيام من التظاهرة و«جاءوا إلى بيتي» مشيرا إلى ميليشيا معروفة طلب عدم ذكر اسمها خوفا من الانتقام.
فشل
وبعد عام من وصوله للسلطة فشل الكاظمي بتحقيق ما وعد والحد من سطوة الميليشيات التي واصلت قتل الناشطين في البصرة وكربلاء وقتلت الخبير الأمني هشام الهاشمي، الذي كان مستشارا لرئيس الوزراء وقتل مثل البقية في وضح النهار وبوجود كاميرات المراقبة ولم تتم متابعة الجناة أو محاكمتهم. وترى رندا سليم، من معهد الشرق الأوسط أن هدف ملاحقة وقمع المتظاهرين هي منع ظهور قيادة داخل حركة الاحتجاج حيث «تقوم باستهداف القادة الرئيسين الذين لديهم إمكانية لتعبية الجماهير. وتقوم بإزالتهم ونشر الرعب بين البقية». وقللت سليم من منظور التغيير في العراق، ذلك أن قادة العراق استفادوا من النظام الحالي الذي قدم لهم السلطة. وينسحب هذا الموقف على العلاقة مع إيران التي لن يتجرأ أي من الساسة علاوة على الحكومة لمواجهة تأثيرها. كل هذا مع الملاحقة والاستفزاز ترك حركة الاحتجاج ضعيفة وغير قادرة على إحداث التغيير المطلوب. فهذا يحتاج كما تقول سليم إلى قيادة وتنظيم ومناورات سياسية وتمويل وغير ذلك. ولهذا السبب تمت ملاحقة وتصيد الناشطين العراقيين، كما أخبرت المبعوثة الأممية للعراق جانين هينس-بلاسكيرت مجلس الأمن الدولي الشهر الماضي حيث قالت إن ملاحقتهم تمت بحصانة واسعة. ويضاف إلى هذا أن معظم المتظاهرين الذين قتلوا منذ احتجاجات عام 2019 وهم أكثر من 560 متظاهرا كانوا عزلا من السلاح ونتيجة لرصاص قوات الأمن والجماعات المسلحة أو عبوات الغاز المسيل للدموع التي تحولت إلى سلاح فتاك عندما تطلق على المتظاهرين. وتبرر الجماعات المسلحة والموالية لإيران ملاحقتها للمتظاهرين بأنها لحمايتهم من الخداع الأمريكي كما بدا في تصريحات من كتائب حزب الله قبل التي صدرت قبل التظاهرة الأخيرة. وتركت حملات التهديد والملاحقة أثرها على الناشطين الذي عولوا على الانتخابات المقررة في تشرين الأول/أكتوبر كفرصة لتغيير النظام السياسي السائد منذ 2003 والذي تم من خلاله توزيع الوظائف ليس بين الطوائف فقط ولكن بين الأحزاب والميليشيات مما عزز العجز والفساد. ويخشى الناشطون من العودة إلى نفس النظام الذي بات متجذرا في الحياة السياسية العراقية وتحميه الميليشيات المتعددة. ولكن حركة الاحتجاج مرتبطة دائما بالظروف المعيشية، وبدأت الموجة الأولى من الجنوب بسبب نقص الخدمات والمياه الصحية، وفي الصيف الذي ترتفع فيه درجات الحرارة لمعدلات لا تطاق يعاني سكان الجنوب من شح المياه الصحية والخدمات الكهربائية مما دفعهم للتظاهر في عام 2019 ولا يمنع أن تحدث نفس الاحتجاجات في هذا الصيف، بعد شتاء من شح المياه وحروب مياه مع إيران وتركيا وسوء إدارة للخدمات.
رهينة
وفي ظل تراجع حركة الاحتجاج الشعبي وقرار الولايات المتحدة سحب معظم قواتها من العراق فإن البلد سيظل رهينة لإيران والميليشيات التابعة لها، وفي مقال للباحث العراقي بجامعة إكستر، طلحة عبد الرزاق نشره بصحيفة «واشنطن بوست» (28/5/2021) قال فيه إن العاصمة بغداد تعرضت مرة أخرى للحصار كما في عام 2014 وهذه المرة لم يكن مقاتلو تنظيم الدولة من احتشدوا على أبوابها، بل من لعبوا دورا في حملة هزيمته وباتوا يهددون وجود الدولة العراقية. وأشار لحصار الجماعات الموالية لإيران وقبل أقل من خمسة أشهر على موعد الانتخابات العامة للمنطقة الخضراء، المجمع المحصن والذي تعمل منه مؤسسات الدولة وتقع فيه البعثات الدبلوماسية. وكان الهدف من محاصرة المنطقة هي إجبار رئيس الوزراء الكاظمي للإفراج عن أحد قادة الميليشيات. ويقول عبد الرزاق إن تعرض رئيس الوزراء لضغوط كي يستسلم وسط حركة من الاحتجاج الشعبي ضد الميليشيات هي إشارة واضحة عن تحول العراق إلى رهينة بيد شبكة شيعية جهادية عابرة للحدود تسيطر عليها وتوجهها إيران. وأضاف أن تمزق العراق كدولة فاعلة واضح للعيان منذ سنوات، لكنه أصبح أكثر وضوحا منذ التظاهرات التي اندلعت عام 2019 احتجاجا على الفساد والتدخلات الأجنبية، وبخاصة إيران والولايات المتحدة.
وزاد من تدهور الوضع هو تورط عدد من الميليشيات بمن فيها كتائب حزب الله بعدد من عمليات الاغتيال والقتل السياسي رغم تأكيدات الحكومة على تحقيق العدالة والقصاص من الجناة. ففي 10 أيار/مايو قتل الصحافي أحمد حسن الذي انتقد الميليشيات في الديوانية، وقبل يوم قتل إيهاب الوزني وهو ناشط معروف في احتجاجات 2019 أمام بيته في كربلاء. ووجهت عائلة الوزني أصابع الإتهامات لقاسم مصلح، أحد قادة الحشد الشعبي البارزين. وهو ما قاد لاعتقاله بناء على أوامر من السلطات الفدرالية التي حاولت الظهور بمظهر من يستجيب لمطالب المحتجين ووقف سطوة الميليشيا. واحتج مقاتلو الحشد الشعبي على اعتقاله بمحاصرة المنطقة الخضراء. ورغم توقع عدد من المراقبين إطلاق سراح مصلح كما حدث في حالات أخرى إلا أنه لا يزال معتقلا في مكان غير معلوم. ولكن اعتقال شخص وترك الآخرين في جرائم أخرى يظهر عجز الحكومة للأخذ على يد الميليشيات، فقد فشل الكاظمي حتى بتحقيق العدالة لصديقه الهاشمي عندما قتل أمام بيته في العام الماضي. وفي حالة مشابهة اعتقل عدد من المشتبه بهم لكن قاضيا متعاطفا مع الحشد الشعبي أمر بالإفراج عنهم لعدم ثبوت الأدلة. وهو أمر ليس مستغربا لأن إيران هي في قلب شبكة عابرة للحدود تمتد من طهران عبر بغداد ودمشق إلى بيروت. وأضاف أن هذه الشبكة متورطة بنشاطات غير شرعية من سوق السلاح الأسود وتهريب المخدرات والإتجار بالجنس حيث تنتشر نشاطاتها عبر الحدود العراقية غير المحمية وترتبط بتجارة المخدرات في أفغانستان. ورغم هذه النشاطات واستمرار المقاتلين الشيعة باستهداف القواعد العسكرية التي ينتشر فيها الجنود الأمريكيون في العراق إلا أن السلطات في بغداد كانت عاجزة عن وقف نشاطاتهم. وقال عبد الرزاق أن هناك نسخة عراقية من «الذين لا يمكن عقابهم» وهم ليسوا مع النظام والقانون بل وكلاء للفوضى والعنف وأدوات لجعل إيران قوة إقليمية. ومع انتشار ثقافة العصابات في السياسة العراقية إلا أن الكثير من سكان البلاد الراغبين بحياة عادية يخاطرون بحياتهم. مع أن الولايات المتحدة والدول الغربية والمجتمع الدولي وعدهم بالحرية والديمقراطية، عندما قام جورج دبليو بوش بغزو العراق عام 2003 وهو دين لم يتم الوفاء به بعد.
وبعيدا عن الوعود وتهديدات الحشد الشعبي فإن اعتقال مصلح، مسؤول عمليات الحشد الشعبي في الأنبار والمتهم بجرائم بناء على قانون مكافحة الإرهاب العراقي وتورطه في قتل ناشطين مثل الوزني، جعل الكثيرون يرون أن عملية الاعتقال صورية وأنه سيخرج مثل غيره. ولكن «الجزيرة» الإنكليزية نقلت عن مكتب رئيس الوزراء إن مصلح لا يزال تحت التحقيق في قيادة العمليات المشتركة، مع أن صحفا محلية قالت إنه أفرج عنه. ولكن اعتقال الكاظمي زعيما من الحشد قد يعطيه دفعة في الانتخابات المقبلة. وقالت القناة القطرية إن إعلان الحكومة عن سبب اعتقال مصلح كان من أجل تعبئة الدعم للحكومة والحصول على دعم الخارج. وقد يستفيد الكاظمي من نزع مصداقية جماعة موالية لإيران. ومع ذلك يواجه الكاظمي مشكلة تتعلق بطموحاته السياسية، فرغم تأكيده أنه مجرد حجر انطلاق من عادل عبد المهدي الذي أجبر على الاستقالة عام 2019 والزعيم المقبل وألا خطط لديه لترشيح نفسه إلا أنه لم يقدم الكثير ليخفف من شكوك معارضيه. وعليه فاعتقال زعيم في الحشد الشعبي قد يكون خطوة حسب هؤلاء لتعزيز شعبيته وسط حركة الاحتجاج الشعبي. وقبل أيام من اعتقاله خرج المتظاهرون مطالبين بمحاسبة المسؤولين عن قتل الناشطين، ومن هنا فربما رغب الكاظمي باستثمار الزخم الشعبي عبر توقيته للاعتقال. وإلى جانب حصوله على دعم حركة الاحتجاج فهو بحاجة لبناء قاعدة أنصار له بين الكتل العراقية الأخرى. ومن المتوقع كما يقول حمدي مالك، من معهد واشنطن ان يحصل بمواجهته للميليشيات على دعم من الصدريين والأكراد والسنة والمجتمع الدولي. وفي الوقت الذي ستواصل فيه الجماعات الموالية استعراض قوتها، خرج مصلح أم لم يخرج، إلا أن شبكة المصالح التي تجمع بينها والدولة، تجعل من كل التحركات التي تقوم بها محسوبة، فهي ستواصل الضغط على الكاظمي، وسيواصل هذا فحص الوضع وتوسيع مساحته للتحرك بدون أن تؤدي تحركاته إلى المواجهة والتي قد تقود إلى حرب أهلية، وهو ما لا يريده أي طرف.
تطور في السلاح
وتهديد الميليشيات لا يرتبط بملاحقتها للناشطين والمعارضين لهاـ بل وباستفزازها للقوات الأمريكية والمتحالفة معها. وأشارت صحيفة «نيويورك تايمز» (5/6/2021) إن القوات الأمريكية تحاول التصدي للقدرات النوعية لميليشيات إيران بما في ذلك استخدام طائرات مسيرة والتي ضربت عددا من الأهداف الأمريكية الحساسة وتجنب الدفاعات العسكرية. وفي ثلاث مرات الشهر الماضي استخدمت الميليشيات طائرات مسيرة محملة بقنابل صغيرة سقطت في مواقع عسكرية حساسة بما فيها قواعد استخدمتها سي آي إيه وقوات العمليات الخاصة. وأشارت أن الهدف من العمليات الأخيرة هو زيادة الضغط على واشنطن لتخفيف العقوبات عن إيران. فقد صممت طهران هذه الطائرات القادرة على إحداث أضرار طفيفة لا تستدعي عملا انتقاميا من أمريكا. وفي الشهر الماضي قال قائد القيادة المركزية في الشرق الأوسط كينث ماكنزي إن هذه الطائرات تمثل تهديدا خطيرا وسارعت القوات الأمريكية للبحث عن طرق لمواجهتها. ويرى مسؤولون عراقيون إن الطائرات المسيرة هي وسيلة وليست المشكلة «فهي وسيلة ضغط» حسب مسؤول، مضيفا أن إيران تعاني من الاختناق السياسي، وكلما عانت زادت من الهجمات. ورغم كلفتها المالية القليلة إلا أن الثمن السياسي لها سيكون كبيرا. وفي ضوء التشرذم الذي أصاب الجماعات الموالية لإيران في العراق بعد مقتل الجنرال قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس العام الماضي، فمخاطر سوء التقدير قائمة، مما يزيد من التهديدات التي تواجه العراق.
المصدر: القدس العربي