لم يعد هناك أدنى شك بأن أشرار عملية المحتل السياسية، قد استنفروا مبكرًا كل ما لديهم من قوة، لتشجيع الناس على الاشتراك بالانتخابات المقبلة، لإضفاء صفة الشرعية على وجودهم في السلطة. خاصة وان هؤلاء الأشرار قد تولدت لديهم قناعة، بان عموم الشعب العراقي قد توصلوا الى حقيقة تؤكد على عدم جدوى الانتخابات، ما دامت هذه الوجوه الكالحة هي التي ستفوز حتما، لما تمتلك من مال وسلاح وسلطة ودعم أجنبي، إضافة الى قدرتها على التزوير في وضح النهار. بل ذهب بعض العراقيين ابعد من ذلك، بتسمية حصة هذا الطرف او ذاك من مقاعد البرلمان سلفا. وبالتالي، ليس غريبا والحالة هذه، لجوء هؤلاء الأشرار الى أساليب الخداع والتضليل لتسويق الانتخابات، والحديث الكاذب عن فوائدها العديدة وقوانينها الجديدة ومفوضياتها المستقلة وهيئاتها الدولية التي ستجري الانتخابات في ظلها.
اما أكثر هذه الأساليب خسة، هي ترويج أكاذيب مفضوحة، ومنها ان هذه الانتخابات جاءت تلبية لمطالب ثورة تشرين، وان قادة هذه الثورة ونشطاءها قد عقدوا العزم على الاشتراك فيها. في حين أعلن الثوار رفضهم القاطع الاشتراك في أي انتخابات قبل توفر الشروط، التي تضمن نزاهتها، مثل كتابة قانون جديد للانتخابات، وليس اجراء تعديلات شكليه عليه، وتشكيل مفوضية مستقلة لا مكان فيها للمحاصصة الطائفية، وقضاء عادل، واشراف دولي محايد. والاهم من ذلك، فقد تم تجاهل تلبية اهم شرط من شروط الثوار، آلا وهو، تحريم اشتراك هؤلاء الأشرار في الانتخابات القادمة، جراء الجرائم التي ارتكبوها والأموال التي سرقوها والمدن التي دمروها والعوائل التي هجروها، وسيادة الوطن التي باعوها، والقائمة في هذا الخصوص طويلة ومؤلمة.
لكن هذا ليس كل شيء، فقد لجا هؤلاء الأشرار الى تغيير أسماء احزابهم وكتلهم من جهة، وإقامة تحالفات فيما بينهم من جهة أخرى. فعلى سبيل المثال، لم يكتف عمار الحكيم، بصبغ عمامته بلون العلمانية والتبرؤ من مجلسه الاسلامي، وتشكيل تنظيم جديد، سماه تيار الحكمة الوطني، وانما قام بتشكيل تحالف سماه عراقيون، على غرار سائرون وصادقون ودولة القانون ومتحدون. في حين اعتزل سليم الجبوري كتلته “السنية” واسس حزبا سماه التجمع المدني للإصلاح. اما اسامة النجيفي فقد اختار لحزبه اسم “للعراق متحدون”، بدل “متحدون للإصلاح”، وشكل محمد الحلبوس كتلة سماها تقدم، بينما ركز اياد علاوي على انهاء النفوذ الايراني، لدغدغة مشاعر العراقيين التي عبروا عنها بشعارات مختلفة. اما مقتدى الصدر الذي تحول من رجل دين” قدس الله سره” الى داعية للإصلاح، فهو لم يكتف بتحالف سائرون، وانما اخذ يحث الخطى لتشكيل تحالف جديد مع رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني. ومن الطريف ان هذه العدوى انتقلت الى حزب الدعوة. حيث أعلن ناطقه الرسمي بان مرشحه للحكومة الجديدة هو نوري المالكي، الذي اقام تحالفا قوامه أحزاب وشخصيات مختلفة الميول والاتجاهات والقوميات والمذاهب. وعلى حس الطبل خفت أرجل “السنة” التابعين لإيران لتشكيل أحزاب جديدة وجبهات عريضة مثل المدعو خميس الخنجر، وسعد البزاز ومحمد حلبوسي وجمال الضاري ومشعان الجبوري وغيرهم. وقد اقترن كل ذلك بتوظيف عدد كبير من السياسيين والكتاب والمثقفين التابعين، بغرض الترويج للانتخابات، تحت ذريعة عدم فسح المجال امام السيئين واختيار الوطنيين المخلصين.
لا ننكر أهمية وجدية ما يقوم به هؤلاء الأشرار، فمقاطعة الانتخابات يعني فقدان شرعية وجودهم في السلطة. وهذا بدوره يحطم السياج الحديدي الذي يتحصنون خلفه، ويحميهم من مواجهة مصيرهم الاسود. اما المحتل الأمريكي، على وجه الخصوص، فمقاطعة الانتخابات بالنسبة له يعني هدم أحد اهم مرتكزات العملية السياسية التي تباهى بها، واعتبرها الاساس للنظام الديمقراطي في العراق. بل الأكثر من ذلك، تعد مقاطعة الانتخابات فشلا ذريعا لكل محاولات المحتل التي بذلها من اجل اغراء العراقيين بالانتخابات والنظام الديمقراطي، ومرد ذلك يعود الى ان العراقي البسيط قد تأكد بالدليل القاطع، بان الفائز في الانتخابات لا يسعى اطلاقا الى تنفيذ وعوده بتقديم خدماته للناس وتحقيق مطالبهم، وانما يسعى من خلال مقعده في البرلمان، لان يصبح مليونيرا او مليارديرا بغمضة عين، دون ان يتعرض للمحاسبة او المساءلة وفق قانون “من اين لك هذا”. كون هذا المقعد الثمين محميا بتعويذة نظام المحاصصة الطائفية والعرقية.
هذا الراي لا يدخل في باب الكيدية، كون كاتب هذه السطور، ضد الانتخابات، ولا في باب المبالغة من اجل تحقيق هدف سياسي، ولا هو قصور فكري في تشخيص الحالة، وانما نذكر ذلك لتأكيد حقيقة واحدة مفادها، بان اية مراهنة على الانتخابات لإصلاح العملية السياسية من داخلها، او على اي تغيير في السياسية الامريكية في ظل هذا الرئيس او ذاك، هو ضرب من الخيال. فذلك يتعاكس مع مخطط امريكا وتوابعها من دول الجوار، وفي المقدمة منها إيران وامارات الخليج، لتدمير العراق وتمزيق وحدته الوطنية وادخاله في حروب طائفية وعرقية، لتتمكن من بقائها في العراق عقودا طويلة من الزمن. وبالتالي فالاشتراك في الانتخابات، يعني لا محال التوقيع بالعشرة على شرعيتها اولا، رغم اعوجاج قانونها وطائفية لجانها وانحياز مفوضيتها وتواطئ المشرفين على صناديقها. ويعني ثانيا، المصادقة مقدما على نتائجها، التي ستكون اغلبها من حصة ذات الوجوه الكالحة. ولا يغير من هذه الحقيقة امكانية فوز عدد من المرشحين المستقلين. حيث لن يكون حالهم أفضل من اسلافهم، الذين فازوا في الانتخابات السابقة، ثم ضاعت اخبارهم ولم نسمع عنهم شيئا. او في أحسن الاحوال، لا هشوا ولا نشوا كما يقول العراقيون.
اما الحديث عن إمكانية تشكيل كتلة كبيرة من الفائزين الوطنيين، تكون قادرة على اصلاح العملية السياسية من داخلها، فمثل هذا القول يعد ضربا من الخيال. بل ويدخل في خانة المستحيلات. حيث سيصطدم القادمون الجدد، بكل تأكيد، بالحيتان الكبيرة التي ليس من مصلحتها اجراء اي اصلاح مهما كان متواضعا. وسيصطدمون ايضا بالدستور الذي يحمي هذه العملية السياسية الطائفية من اي اختراق. والذي لا يمكن تعديله او تعديل اية مادة فيه، تضر بمصالح اي طرف فيها، لامتلاكه بما يشبه حق الفيتو وفق الفقرة الرابعة من المادة 142.
بالمقابل وعلى الجهة الأخرى فان ما يشاع حول التوجه الجديد للأمريكان، نحو تغيير الوضع في العراق الى الأفضل، خشية من تطور ثورة تشرين لتشمل الشعب العراقي عموما، فهذه اكذوبة مفضوحة. اما الذين تحدثوا عن خارطة الطريق لهذا التوجه الأمريكي المفترض، فهذه ليست اكذوبة مفضوحة فحسب، وانما نكتة سمجة. اذ كيف للمواطن العراقي ان يصدق اقدام المحتل الأمريكي، الذي دمر البلاد والعباد، على انهاء دور الاحزاب الحاكمة كونها احزابا دينية متطرفة. والقضاء على المليشيات المسلحة، وحل الحشد الشعبي، والغاء جميع القوانين التعسفية، وتعديل الدستور، وتطهير القضاء، وتقديم الفاسدين والسراق والمجرمين الى المحاكم؟ أليست هذه الأحزاب والمليشيات والحشد، هي ذاتها التي نمت وتغولت تحت سمع وبصر هذا المحتل الغاشم؟ أليست هذه هي الأدوات التي اعتمدها المحتل لتدمير العراق دولة ومجتمعا. ثم هل يكفي للتدليل على صحة هذه الترهات وعود الكاظمي بنزع سلاح المليشيات، او اقدامه على اعتقال أحد قيادات الحشد مثل المدعو قاسم مصلح؟ اليس هذا الفعل الذي قام به الكاظمي يدخل ضمن تحسين صورته القبيحة للاستمرار في منصبه؟
باختصار شديد جدا، ومن دون لف او دوران، او بذل اي جهد يستحق الثناء، او تقديم مرافعات رصينة او عالية المستوى. فان الانتخابات القادمة ونتائجها لن تكون اقل سوءا من النتائج المأساوية التي افرزتها أربع تجارب انتخابية سابقة. حيث جميع الوقائع والأحداث تؤكد، على ان الانتخابات القادمة، مهما جرى تزويقها او تجميلها بكل مساحيق العالم، لن تكون سوى نسخة طبق الاصل من الانتخابات السابقة. وبالتالي، فان المشاركة فيها تعد جريمة نكراء، كونها تمثل اعتراف بمشروعية العملية السياسية، واعطاء الحق لذات الوجوه الكالحة التي ستفوز حتما، بمواصلة فسادهم وسلوكهم الاجرامي من جهة، وخدمة مشروع الاحتلال وتكريسه لعقود طويلة من جهة اخرى. وبالتالي، لا خيار امام العراقيين والشخصيات الوطنية والمثقفين والشعراء المناهضين للاحتلال وعمليته السياسية، سوى الوقوف ضد هذه الانتخابات، ورفض المشاركة فيها تحت اية ذريعة كانت، والانتقال الى المشاركة الفعلية في ثورة تشرين العظيمة، التي هي وحدها القادرة على اسقاط العملية السياسية برمتها وتشكيل حكومة وطنية مستقلة تأخذ على عاتقها بناء العراق الجديد فعلا.