أدرك من استمع إلى خطاب بشار الأسد، بُعَيْدَ الانتهاء مما سميت مهزلة الانتخابات، من اللغة البذيئة التي استخدمها، كم هو مقهور وحانق. ما يعبِّر عن حجم الرعب الذي يعبث بداخله، ويلفُّ مستقبله الغائم في ظل تحدّيات الأوضاع السورية التي صنعها بيديه، أو بسبب رعونته التي قادت البلاد إلى ما هي عليه. تنتظر حلولاً، ولكن لا حلول بوجوده، فتراه مرتبكاً بائساً أمام انكشاف عورات النظام الذي يرأسه، فعلى الرغم من حجم الاحتقار الذي أبداه وأجهزته الأمنية والعسكرية والحزبية، للشعب السوري وفئاته كافة، من خلال محاولات تصغيره، وإذلاله بجعله يمارس تفاهات لوازم انتخاباته التي تجاوزت أبسط القيم الأخلاقية، فقد جعل المواطن يمارس، بإرهاب أدوات النظام، أفعالاً لم يكن ليفعلها لو أنه يمتلك حرّيته، وحقه بالدفاع عنها. ولم يكتف النظام بمخبري الأجهزة والشبّيحة و”زلم” أثرياء الحرب، بل ألزم رجال الدين الذين يفترض أنهم يمثلون قيماً أخلاقية تتسم بالقدسية، فسيَّرهم بمظاهرات، كالشبّيحة والطبّالبين وسواهما، يتضرّعون إلى الله، بأسلوب شعبوي، أن يحفظ لهم قائدهم. وأتبع ذلك بحفلات دبك ورقص وتهريج، وتمجيد للرئيس الذي لا مثيل له إلا في الدول المشبعة تخلفاً واستبداداً. وكان أبوه قد أخذ أسلوب تلك الانتخابات عن كوريا الشمالية المأخوذة أصلاً من شكل انتخابات الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت سبباً في إسقاطه إضافة إلى أسباب عديدة أخرى! وعلى الرغم من وجود مرشّحين خلَّبيين كثر بقي منهم اثنان، تصدَّق عليهما بحفنة أصواتٍ تكاد ألّا تذكر ليشير إلى الفارق الكبير بينه وبين أي مرشّح آخر من أبناء الشعب، وكأن هؤلاء في أسوأ حالاتهم مقطوعون من غصنٍ يابس، فلا أهل لهم، ولا أصحاب، ولا أسر أو عائلات أو أنصارا يمنحونهم مقداراً معقولاً من الأصوات.. والحقيقة أن المرشَّحَيْن ارتضيا على نفسيهما أن يكونا ذلك القرد الذي كنا نتفرج عليه، أيام زمان، إذ كان “القرداتي” يدور به على تجمّعات الناس، ليجمع بعض النقود مقابل حركاتٍ يؤدّيها القرد. وليس ذلك فقط، بل جاءت كل خطوة قامت بها تلك الأجهزة هزيلة، وأعطت عكس مبتغاها. حتى إنَّ بصمات الدم التي قام بها بعض العسكريين كشفت عن حالة التباهي بالغشّ والتزوير دونما أي خجل أو اعتبار لأية قيمة قانونية أو اجتماعية أو أخلاقية.
جمع متابعون حجم الأصوات التي نالها، وطرحوا وقسموا وقارنوا، ثم تبينوا أنها فاقت عدد سكان سورية كباراً وصغاراً، حتى إنَّ عدد سكان سورية نفسه قد ازداد ليبلغ الضعف أو دونه بقليل. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ترامب وبايدن حصلا مجتمعين في انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي على نسبة 40% من عدد سكان الولايات المتحدة البالغ نحو 320 مليون نسمة، وهؤلاء هم الذين يحق لهم الانتخاب، علماً أن المجتمع السوري أكثر شباباً، فأعمار من هم دون سن الانتخاب أكثرية، يعني أن نسبة من يحق له الانتخاب أقل من الأرقام التي ظهرت. وإذا ما افترضنا أن انتخابات الأسد كانت حامية بالقدر نفسه، ونزيهة بالمعايير ذاتها، فيكون عدد سكان سورية أكثر من 35 مليون إنسان من دون حساب أكثر من 12 مليون مهجر، تحت طائلة الموت، أو مقيم خارج مناطق سيطرته لنظامه، فهؤلاء جميعاً، في عُرْفِ بشار، ثيران هائجة وخونة وعبيد للدولار، كما وصفهم خطابه!
يعلم الأسد قبل غيره أن تدمير سورية الذي جرى على يديه، وأيدي من وصفهم بالإخوة، (الروس والإيرانيين)، لأن هؤلاء طالبوه بإجراء انتخاباتٍ حرّة وديمقراطية، تسمح بتداول السلطة، ولا أحد يعرف ما الذي أخافه حينذاك، إذا كان قادراً بالفعل على حيازة 14 مليون صوت حلال، وليدفع جيشه لمواجهة المطالبين بالانتخابات الحرة! ثم ليدير ظهره للمبادرات العربية التي لم يكن جوهرها غير اللجوء للانتخابات الديمقراطية حلاً سورياً سورياً.
لغة بشار الأسد في ذلك الخطاب، وعلى الرغم من كل الارتياح الذي ظهر على وجهه المحسَّن بالبوتكس، أكّدت أن النظام فشل في تجميل صورته، فلم يستطع تمويه عملية الانتخابات لتكون طبيعية. وإذا كان أمر تزوير الانتخابات لا يهمه، إذ هي تجري على هذا الشكل منذ تولى والده السلطة. وتؤكد لغة الخطاب الغاضبة أن النظام يقف اليوم وجهاً لوجه أمام الاستحقاق السوري المؤجّل.. وهو إعادة الإعمار، وترحيل الاحتلالات، واستعادة ثلث الأراضي السورية بثرواتها الجمّة من شاغليها ومستثمريها! وإعادة لم شمل السوريين على أرض وطنهم، التي هي في صلب الحلول المنتظرة، وإن كان الخطاب يحمل، في نبرة تخوينه، فكرة الاستغناء عن المهجّرين. وقد يبدو هذا الأمر طبيعياً لمن لم يفهم الوطن إلا مزرعة له ولأسرته وللضاربين بسيفه. أما إذا كان يعوِّل على الروس، وعلى حدوث اتفاق بين أميركا وإيران، لتعود الأخيرة، وقد استردّت أنفاسها، ومع عودة العرب الذاهبين إلى التطبيع معه، ومع إسرائيل، يمكنه الاستغناء عن المهجّرين أجمعين، وتقديم شيء ما لهؤلاء الذين دبكوا، ورقصوا، وتصاغروا أكثر مما ينبغي، فتلك أيضاً مجرّد أوهام يكذّبها الواقع.
وأخيراً، إذا كان خطاب رأس النظام السوري يوضح أن الانتخابات لم تفكك له العقد، فلا شكّ أن الأمر منوط بموازين القوى الدولية، وبمصالحها، وبمدى احترام الدول الكبرى قرارات الأمم المتحدة، وخصوصا القرار 2254. بيد أن الأمر مرتبط أيضاً بما يمكن أن تبدو عليه المعارضة من وحدة وتماسك ومرونة تحالفات، وتأكيد وحدة سورية أرضاً وشعباً، والتفاف حول شعاراتٍ ديمقراطيةٍ تحقق المواطنة الكاملة، وتعمل في إطار تلك الوحدة على تجاوز أي لونٍ من ألوان التمييز بين المواطنين من الذي كان سائداً زمن الاستبداد، فعلى إنجاز ذلك يتوقف الكثير، ولا مجال للانتظار، فالزمن لا يرحم
المصدر: العربي الجديد