نعيش في زمن سيولة المعلومات وتدفقها وقد باتت وسائل التواصل الاجتماعي وسائل للتدابر والتقاطع الاجتماعي أحياناً، كل يوم نتصفح فيه وسائل التواصل الاجتماعي التي تحيط بنا من كل جانب وقد أصبحت واقعاً مؤثراً في الشارع العربي والعالم لا مناص منه، وباتت الرقابة الصلبة التي كانت تفرضها الأجهزة الرقابية من الماضي، فنحن كما قال عالم الاجتماع زيغمونت باومان في زمن الرقابة السائلة، ففي صباح ومساء كل يوم نعاني من سيل من الاصطفافات المقيتة الحادة داخل البيت العربي وحفر الخنادق بين القلوب والعقول والأفكار بدل بناء الجسور، وبات الخلاف السياسي ذاته أخف من خلافات النخبة العربية.! للأسف، إضافة إلى ضياع المصلحة المشتركة، وشئنا أم أبينا فإن الشعوب التي تكثر بينها المشتركات من العرق واللغة والدين والتاريخ غالباً ما تتأثر ببعضها ويكون لها المصير نفسه سواء كان صعوداً أو انحداراً .
نعيش اليوم تشظي في الحالة العامة وضيق في المصلحة وسوء تقديرها، إضافة إلى وقوف البعض بصف الخصوم والقتلة الذين يقفون في مواجهة رغبة الشعوب في أن يحييوا حياة كالحياة فقط.
وكما ذكر الكواكبي الحلبي يوماً أن النخبة هم الأخوة الراشدون للعامة. فتصور ضياع الرشد عند الكثير من النخبة.!
وعادة يكون المنحى الثقافي أقل حدة من السياسي ويكون هو هامش الصلح والاقتراب بين الأطراف بل يؤثر بالسياسي ضغطاً اتجاه المصلحة وما هو مفيد
لكن هذا السيل الكبير من الكم الذي يتدفق يومياً من عبارات الإعلاميين والكتّاب والصحفيين والفنانين يُظهرون مواقف مسبقة واضحة وحدّة في التعبير والهمز واللمز داخل البيت العربي لمجرد العمل بوسيلة إعلام تتبع دولة عربية لها خلاف سياسي مع دولة عربية أخرى ، والخلاف السياسي أمر حاصل عندما تختلف المصالح أو المواقف لكن الخلاف السياسي لا يدوم وفق مقتضيات المتغيرات السياسية والمصالح والمواقف لاسيما في زمن التسارع والتهديدات التي قد تفرض واقع سياسي فيه توافق سياسي كبير بين المختلفين وتبقى الشعوب منقسمة ضحية نخب تعمّق الخنادق والخلاف وتجذرّه ولا تبني الجسور بين الأطراف، ولاسيما أعداد من النخب تحظى بكم من المتابعين العرب في مواقع التواصل الاجتماعي يفوقون أحياناً بعض الزعماء في العالم والناس تقرأ لهم يومياً ما يكتبون وتتأثر بهم.
عندما ترتقى النخب ترتقي الشعوب وعندما تتنازع النخب تتقاتل الشعوب، ونحن في زمن مليء بالانتكاسات والانكسارات والهزائم والكثير من التحديات، والأعداء الذين يتربصون بنا الدوائر كُثر من أجل الانقضاض والنهش والقضم والاستغلال والسيطرة أيضاً، ولا يليق في واقع بكل هذا البؤس وهو في قطب الصراع ورحاه أن تكون نخبه بعزيمة مستريحة وتفكير فردي وبتوجهات مليئة بالأنانية والتجاذبات الحادة، وعوضاً من أن تتلاقى النخب عندما تتنازع السياسة لتكون طريقاً لتخفيف التوتر السياسي ومسار ضاغط على المسار السياسي من أجل رأب الصدع، فتتحول النخب إلى تأكيد وتعميق الموقف السياسي رغبة بمقربة وحظوة لدى القيادات السياسية، وهذه ليست أخلاقيات النخبة والقيادة وأخلاقيات الفروسية العربية كما يسميها العرب، فلعلّ هذا يخلق صحوة في التفكير والسلوك، ولعل الشباب الذين ينضجون من رحم المعاناة أن يدركوا حجم التركة والأمانة ويعملون بطريقة صحيحة ومفيدة، يُروى أنه عندما جاءت عائلة الأحنف من أبناء عمه وقد قُتل أحدهم فأمرهم بتقديم الدية لأم القتيل وإقامة العزاء الواحد والإحسان إلى ذوي المغدور، فاستغرب الناس فقال إن ما حصل قد حصل والمهم مانحن فاعلون اليوم، فالتشاجر المستمر لن يفيد أحد لاسيما قد وقع ما وقع، لكن التشاحن يفيد المتربصين بنا ، ونحن أحوج ما نكون إلى نخب تعلو فوق الخلافات وتبني جسوراً بين القلوب والعقول لاسيما نحن الشعوب النازفة، فمداواة الجرح خير من نكأ الجراح وسيل التراشق والتجاذب، والترفع عن صغائر الأمور خير من المضي في أحقاد لا تسرُّ صديق ولا تغيظ عدو.
فالحظوة والمكرمة فردية قصيرة لكن البلاء كبير، والعقل والوعي الاستراتيجي أكبر بكثير من الوعي المحدود المنشغل بصغار الأمور، وحال الشعوب وفق حال النخب من عقول بناءة نهضوية واعية أو عقول هدّامة كارثية، ولا عاقل حكم يرتضي لقومه إلا الرفعة والفلاح، وينبغي كشعوب عربية وغير عربية نعيش معاً أن نتقن فن العيش معاً ونبني جسوراً للنهضة والرفعة والحضارة التي بقي منها الإرث فقط.
المصدر: اشراق