من المرجح فتح ملف انتهاكات الإقليم خصوصا المتعلقة بالحرب الكيماوية والمحاكمة الدولية قد تنتظر رئيس الوزراء الإثيوبي.
حيث تشكل العقوبات الأميركية على أديس أبابا بشقيها الاقتصادي والأمني خطوة مفاجأة، ولم تكن متوقعة من جانب الإدارة الديمقراطية الراهنة التي تملك تقليدياً علاقات جيدة بأديس أبابا، وبطبيعة الحال سيكون لها تداعيات سلبية على الموقف الداخلي لآبي أحمد عشية الانتخابات العامة المقررة في يونيو (حزيران) المقبل.
ومع تصعيد الإدارة والإعلام الأميركي ضد إثيوبيا وإرتيريا معاً، وصدور تقارير بشأن استخدام أسلحة كيماوية في أديس أبابا يكون السؤال المطروح هو هل يواجه كل من آبي أحمد وأسياس أفورقي احتمالات الاتهام والمحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية على النمط الذي حدث لعمر البشير بسبب حربه على إقليم دارفور؟ أم أن الأمر لن يتجاوز ضغوطاً سياسية أميركية لإجبار أسياس أفورقي على سحب قواته من إقليم تيغراي، وهي الخطوة التي ماطل فيها طويلاً، ولكنه يضطر حالياً إلى التنفيذ خصوصاً بعد طلب وزير الدفاع الإثيوبي؟
في البداية يمكن رصد أن العقوبات الأميركية تعلقت بفرض قيود على منح تأشيرات إلى أي مسؤول أمني أو حكومي حالي أو سابق إثيوبي أو إريتري، ثبت ضلوعه في الانتهاكات التي ترتكب بإقليم تيغراي، أو مارس فعل الإعاقة ضد وصول المساعدات الإنسانية إلى سكان الإقليم، حيث أشار بيان الخارجية الأميركية إلى أن العقوبات سوف تأخذ طابعاً تصعيدياً في حالة عدم الاستجابة، داعية المجتمع الدولي إلي الانضمام لواشنطن في إقرار عقوبات مماثلة.
وفي الشق الاقتصادي أعلنت الخارجية الأميركية، فرض قيود واسعة النطاق على المساعدات الاقتصادية الشاملة والأمنية على وجه الخصوص التي كان من المقرر تقديمها إلى إثيوبيا.
توجت العقوبات الأميركية خطوتين تمتا خلال الشهور الماضية؛ الأولى إرسال مبعوث شخصي من الرئيس بايدن إلى أديس أبابا في أبريل (نيسان) الماضي هو السيناتور كريستوفر كونز، والثانية هي دمج مجلس الأمن في ممارسة الضغوط على إثيوبيا بشأن الانسحاب الإرتيري من إقليم تيغراي، حيث عقدت أكثر من جلسة بهذا الشأن خاطبتها خلالها السفيرة ليندا توماس جرينفيلد وألقت باللوم الأكبر في هذه المرحلة على أسمرا، وليس على أديس أبابا.
في هذا السياق برز اهتمام الإعلام الأميركي غير المسبوق بشأن الانتهاكات ضد الإنسانية التي جرت أثناء وبعد الحرب على إقليم تيغراي، وهو الاهتمام المدفوع في تقديرنا بسبب مساهمات وضغوط الجاليتين الإثيوبية والإرتيرية في أميركا اللتين تعدان من الجاليات الوازنة هناك، حيث بلغت الأهمية السياسية للجالية الإثيوبية أن ذهب إليها وخاطبها آبي أحمد في أعقاب توليه منصبه عام 2018. فيما تشكل الجالية الإرتيرية جمهوراً واسعاً معارضاً للرئيس الإرتيري أسياس أفورقي الذي يحكم منذ نحو ربع قرن ونيف، وهو سبب كافٍ لاتساع معارضة الشباب على الأقل ضده، حيث وجدوا في تورطه في الحرب على تيغراي الفرصة المناسبة. هذه البيئة المحيطة بأزمة إقليم تيغراي مماثلة لحد كبير لذات البيئة التي أحاطت بأزمة دارفور، من حيث آليات الضغط الأميركي فيها وطبيعة القوى الدافعة وراءها التي تسمى في الأدبيات السياسية الفاعل غير الرسمي.
نقطة الاختلاف الوحيدة بين بيئتي الأزمتين هي أن الحكومة السودانية لم تتهم بممارسة حرب كيماوية كالتي مارستها أديس أبابا طبقاً لتقارير صحافية غربية، واكتفت فقط بحرق القرى الدرافورية وتهجير السكان الذين لجأوا إلى تشاد، بينما لجأ الإثيوبيون إلى شرق السودان. وهي ذات السيناريوهات التي قادت الرئيس المخلوع عمر البشير للاتهام أمام الجنائية الدولية على جسر قرارات من مجلس الأمن صدرت تحت ولاية الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهي القرارات التي أفضت إلى المطالبة بتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية حتى يتم محاكمته أمامها.
وربما ما يرجح أن يكون مستقبل أزمة إقليم تيغراي ومصير آبي أحمد مماثلاً إلى حد كبير لمصير البشير، هو طبيعة التفاعل الحكومي الإِثيوبي مع الأزمة، الذي غلبت عليه المراوغة، وبدأت حالياً تتكشف أبعادها للعالم، حيث قام آبي أحمد أولاً بإنكار أن القوات الإرتيرية شاركته في الحرب على إقليم تيغراي، وذلك في جلسة أمام البرلمان في مارس (آذار) الماضي، ولكنه سرعان ما زار أسمرا في وقت لاحق، وأعلن في ختام زيارته أنه اتفق مع الرئيس الإرتيري أسياسي أفورقي على سحب قواته من إقليم تيغراي، وأن الأخير ملتزم بالاتفاق، ولكنه طبقاً لما أورده موقع “إثيوبيا ستاندر”، فإن رئيس الوزراء الإثيوبي يبلغ حالياً الإدارات السياسية حول العالم في اتصالاته غير المعلنة أن الرئيس أسياسي أفورقي هو من يرفض الانسحاب! هذه المراوغة جعلت الوعد الإثيوبي بالانسحاب الإرتيري لا يتحقق، وبسبب ذلك تم توقيع العقوبات الأميركية على مسؤولي كل من إثيوبيا وإرتيريا.
وربما يكون من أسباب التباطؤ في الانسحاب من إقليم تيغراي أسباب تخص الموقف السياسي لكل من أحمد وأفورقي على الصعيد الداخلي في بلديهما، والآثار السلبية المتوقعة على التوازنات الداخلية الحرجة في كلتا البلدين.
فيما يخص موقف آبي أحمد، فإن انسحاب إرتيريا من إقليم تيغراي قد يعرضه لانكشاف عسكري كبير في الإقليم، لا بد أن يسفر عن استعادة جبهة تحرير تيغراي كامل قدراتها العسكرية التي تمارس حالياً مقاومة شرسة على الأرض، وقد يكون من المرجح انقلاب الأوضاع العسكرية. فمن المعروف أن الجيش الفيدرالي الإثيوبي اضطر إلى سحب قواته من منطقتة القضارف السودانية، وقواته في عملية حفظ السلام بالصومال حتى يستطيع شن حربه على إقليم تيغراي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020.
وبطبيعة الحال هذه الهزيمة من شأنها أن تنهي مستقبل آبي أحمد رئيس الوزراء السياسي من ناحية، كما تضع نقطة النهاية في التحالف بين قسم من الأورومو والأمهرة من ناحية أخرى، وهو تطور له تداعيات على الفسيفساء الإثيوبية، التي يتوقع معها اندلاع حرب أهلية واسعة النطاق بين تيغراي والأمهرا في ضوء امتلاك القوميتين علاقات ثأرية ثنائية خلال الثلاثة عقود الماضية.
وقد قام آبي أحمد بهندسة حساباته في المراوغة بشأن المطالبات الدولية بالانسحاب الإرتيري من إقليم تيغراي، وفتح الباب أمام حوار سياسي مع قادته على أساس أن هذه المطالبات قد تعوزها المثابرة في ضوء حقيقة أن أديس أبابا تملك تحالفاً تقليدياً مع واشنطن، وأن موقفها وموقف باقي العواصم العالمية لن يتعدى حدود العقوبات الدبلوماسية ذراً للرماد في العيون.
أما حسابات الرئيس الإرتيري أسياس أفورقي، فهي متعددة الزوايا، فمن ناحية قضى أسياس أفورقي على معسكرات معارضيه أثناء الحرب، الذين لجأوا إلي إقليم تيغراي في فترات سابقة، واتخذوا من الإقليم قاعدة لانطلاق هجماتهم ضد نظام أسياس أفورقي. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الحرب قد ضمنت لأسمرا استعادة مثلث بادومي المتنازع عليه بين إِثيوبيا وإرتيريا وتسبب في حرب بين البلدين استمرت عامي 1998-2000. وأخيراً، فإن هذه الحرب تعني لأفورقي ضعضعة إقليم تيغراي، الذي يملك أطماعاً في إرتيريا، وهناك مخاوف تاريخية من أن يكون إقليماً منفصلاً عن كل من إثيوبيا وإرتيريا بضم قومية تيغراي لشتاتها (تيغراي وتجرنيا) الموجود في الدولتين، وهو شتات مؤسس تاريخياً ومعنوياً على مملكة أكسوم التي نشأت في هذه المناطق قبل الميلاد بنحو 85 سنة. بطبيعة الحال مثل هذا التطور إن كُتب له النجاح سينهي إرتيريا كدولة بالكلية.
في هذا السياق يكون من المفهوم أن تتنكر القوات الإرتيرية في الثياب العسكرية للجيش وتمارس كل أنواع القضاء على مقدرات الإقليم على صعيدي الاقتصاد والبنية التحتية، بما يفقده قدراته الذاتية لعقود.
طبقاً للتفاعلات الحالية لا نستطيع الركون إلى صحة حسابات كل من آبي أحمد وأسياسي أفورقي، فيما يتعلق بإقليم تيغراي فمن الواضح أن مخاوف واشنطن من تداعيات حرب تيغراي على القرن الأفريقي وعلى إثيوبيا نفسها قد تجاوزت حسابات تحالفاتها التقليدية مع أديس أبابا، خصوصاً مع الموقف الإثيوبي المتعنت في إطار مفاوضات سد النهضة. من هنا تم اتخاذ الخطوة الأميركية بطرح الأزمة في كل من مجلس الأمن وحلف الناتو، كما أن اهتمام الرئيس الأميركي بهذه الأزمة بدا شخصياً بدليل أن مبعوثه لأديس أبابا هو صديقه الشخصي ومن نفس دائرته الانتخابية “ديلاور”.
وطبقاً لذلك، فإنه من المرجح أن يتم التوسع في الكشف تباعاً عن الانتهاكات في إقليم تيغراي، خصوصاً تلك المتعلقة بالحرب الكيماوية، وسوف تكون محلاً لاهتمام مجلس الأمن الذي قد يصدر قرارات عقابية شاملة على إرتيريا خصوصاً، وأيضاً إثيوبيا، ومن شأن هذه العقوبات أن تفتح شهية أعداء الرجلين في الإقليم، ويزداد ضعف آبي أحمد على وجه الخصوص ويصبح معرضاً للمحاكمة، وهو الرجل الذي فهم أن العقوبات الأميركية على إثيوبيا قد تكون أيضاً رسالة في قناة سد النهضة، خصوصاً في ضوء المكالمات الهاتفية بين كل من الرئيسين الأميركي جو بايدن والمصري عبد الفتاح السيسي، من هنا نستطيع أن نفهم الرد الناري الذي ردت به إثيوبيا على العقوبات الأميركية، وهي العقوبات التي سوف نشهد توسعاً لها في المرحلة المقبلة، وكذلك تداعيات سياسية كبيرة على كل من إثيوبيا وإرتيريا.
المصدر: اندبندنت عربية