واكب الروائي السوري فواز حداد متغيرات الواقع السوري عبر رواياته على عدة مستويات. افتتحها بروايته “موزاييك – دمشق ٣٩” عما قبل الاستقلال، مرورا بـروايته “تياترو ١٩٤٩” حتى “المترجم الخائن” و “جنود الله” وغيرها، إلى الزمن الحاضر.
“يوم الحساب” روايته الجديدة، التي نشرت مؤخرًا، تتابع الحدث السوري الأبرز في العشر سنوات الأخيرة، عن الاحتجاجات والمظاهرات التي اندلعت في منتصف آذار ٢٠١١م، وما أدت إليه. تناولها من زوايا مختلفة في رواياته: “السوريون الأعداء” و “الشاعر وجامع الهوامش” و “تفسير اللاشيء”.
نحن أمام رواية اخرى لفواز حداد تنحو إلى استعراض الأحوال السورية بشكل روائي في زمان الثورة والحرب اللتين تشكلان الخلفية الكبرى للرواية. وكما عهدنا في روايات حداد، تتداخل حقائق الحالة المجتمعية والسياسية على الأرض الذي هو الأصل، مع الحدث الروائي ضمن سياق العمل السردي المعبر عنها. ففي الرواية يتوارد من خلال نسيج ما حصل في سورية، ما آل إليه الوضع الحياتي، لمن بقي فيها، أو هرب منها، ومن استشهد، أو اعتقل، أشبه بصورة تتسع باستمرار، وتلقي بأضوائها الكاشفة، تتضح وتتبلور أولا بأول في الرواية.
تعري الرواية الحالة السورية من عدة جوانب، وليس من السهل تلخيصها، لأن المواقف لا تظهر أهميتها إلا في تفاصيلها الدقيقة التي تدخل في تلافيف كيان النظام الاستبدادي، تفصل بين مفهوم الدولة والنظام الكاريكاتوري الظاهر على السطح. وتغوص عميقا في مجاهله، وفي العمق تماماً، تخترق القصر الجمهوري، والدوائر المتوضعة فيه، من الدائرة الضيقة، إلى ما يدعى الدولة العميقة، كذلك بالمسؤولين حملة الملفات، الذين يتحكمون في البلاد، ويستثمرونها بمنطق النهب والسلب كارتزاق مفروغ منه، من دون ارتباط بأي قيمة مجتمعية او وطنية، أو حق، او مشروعية، فالدولة الشمولية تجب أي حق، وتمنح اللصوص حقوقًا مستمدة من منطق الوراثة والتوريث، وفي الوقت نفسه، ترفع شعارات الادعاء بالمقاومة والممانعة. بينما النظام يستثمر الطوائف كلها، ويحاول تجييرها ضد شعبها السوري، فكانت أدواته وضحيته في آن واحد، مستغلا مقولة حماية الاقليات الدينية والمذهبية، ما جعلها تنصاع لإملاءاته، بغية تحويلها إلى ادوات قمع. كان من نتائجها تشكيل ميليشيات دينية طائفية علوية ودرزية ومسيحية.. الخ. كانت الوسيلة المجتمعية للصراع الطائفي والأهلي. يذهب الجميع ضحيتها ويعيش النظام فوق جثث الضحايا وركام المدن والبلدات، حتى لو تمزقت سورية وأصبحت محتلة من عدة دول، بينما الأهالي يموتون جوعا وذلّا وقهرا وظلما. تلك هي الخلفية التي استند إليها الروائي، تظهر في روايته بأسلوب ساخر، لا تخلو من طرافة سوداء.
في الرواية إشارة لهوية الثورة السورية. انها ثورة السوريين جميعاً بكافة مكوناتهم الدينية والطائفية والعرقية. ابطالها من هذا التنوع المجتمعي الذي وقع ضحية نظام مستبد. فليس صدفة ان يكون بطل الرواية جورج المسيحي المنتمي للثورة والذي استشهد وهو يقوم بدوره الاغاثي الانساني فيها. وليس صدفة ان يكون سومر العلوي الناشط الثوري الذي استمر حتى آخر الرواية أمينا على الثورة وحقائقها ووثائقها وطهرها ونقائها الاول.
لم يكن جورج المسيحي استثناء في الثورة، الكثير من الشبان تركوا جامعاتهم في أوربا وأمريكا وجاؤوا يشاركون فيها، وربما كان الدليل الأبرز والمثال الناصع، هو باسل شحادة الذي غادر مقاعد المعهد السينمائي في أمريكا، وعاد إلى سورية ليعمل على توثيق الانتفاضة الشعبية سينمائيا، كان من الناشطين في الثورة، وأصبح واحدا من شهدائها. وكأنما على وقع خطاه في الرواية، ترك جورج أيقوني دراسته الجامعية في فرنسا وعاد إلى دمشق ليشارك في المظاهرات التي خرجت من المساجد.
تدور الرواية حول البحث عن جورج الابن المفقود التي ضاعت أخباره منذ سنوات، ومحاولات الأم العثور عليه بمساعدة الكنيسة، فتستجير بالخوري جبرائيل الذي يأخذ على عاتقه التوغل في كواليس النظام. فيقابل عددا من مسؤولي النظام الكبار واحدا بعد الآخر، وكل منهم يكشف في الرواية عن جانب غير معروف من خفايا التركيبة التسلطية، وأساليب اتخاذ القرارات. تذهب الرواية إلى المناطق المحرمة، وتثير القضايا الممنوعة، ولا توفر المسؤولين عن الخراب السوري، فمن حامل الملف، إلى موزع الملفات، فالمسؤول عن قسم الأقليات في القصر الجمهوري، ثم الناطق باسم المخابرات، ما يكشف عن عالم معقد من الوساطات والعمولات، كإحدى آليات النهب والابتزاز.
لا تغيب الرسالة الضمنية المبثوثة في الرواية بأن النظام لا يحمي أحد، إنه عدو الشعب كله، يستخدمه ادوات لحمايته وتعظيم مصالحه، فيضحي به وبالبلاد لتحقيقها. فالمسيحيون، ومثلهم باقي الطوائف بلا حماية، فما حصل على شركائهم في الوطن حصل عليهم. استخدموا كشماعة يعلقها النظام لتحميلهم جرائمه، ولم يوفر شباب ما يدعى بالأقليات ومعهم ما يدعى بالأكثرية ليكونوا مرتزقة وشبيحة وقتلة. واتهم الثورة بأنها من فعل متطرفين سنة وارهابيين جاؤوا من الخارج. وادعى أمام الغرب بأنه حامي الأقليات والعلمانية وضد الإرهاب. بينما كان يعيث في سورية فسادا وفي شعبها قتلا وظلما، بالتواطؤ مع الدعم الدولي في ما أصبح يدعى بالحرب الدولية على الإرهاب.
في الخط الموازي للرواية يطرح فواز حداد من خلال ناشط مطارد مع ريما صديقته وحبيبته، ورحاب الأستاذة الفرنسية السورية الأصل وسومر الناشط الثوري تساؤلاتهم حول الوطن والثورة الحرية والعدالة، الهجرة والبقاء، ومعنى النضال والحياة، والأديان والمذاهب … تُطرح بشكل مباشر وبمنتهى القسوة.
لا تخفي الرواية اقتحامها خطوطا حمراء، وتفنيدها مفاهيم هشة في حقيقتها، والتعرض لإشكالات لم تأت خطورتها إلا من طرحها لحقائق لا يجوز تجنبها.
ينتهي الحدث الروائي بمعرفة مصير جورج، لكن ما يبقى معلقا ولا ينتهي هو الحدث الواقعي عن مصير الثورة السورية والشعب السوري الذي قدم التضحيات لتحقيق إنسانيته وحقوقه بالحرية والكرامة والعدالة والديمقراطية والحياة الأفضل…مازال المستقبل مفتوحا… وما زال الأمل مشرعة أبوابه.