من حقّ الإنسان أن يعيش بسلامٍ وأمن وطمأنينة، وأن يستعيد حقوقه الطبيعية في الحياة الكريمة والحرّية، وأن يحقّق وجوده ويمارس دوره في أنسنة هذا الكوكب البائس المتوحش، وفي إعادة بناء ما هدّمته قوى الطغيان والشرّ.
أسوأ أنواع السرطانات وأشدّها فتكاً بالدول والأمم هي الأنظمة الطغيانية المستبدة التي تمارس إرهاب الدولة ضدّ شعوبها وضدّ الشعوب الأخرى، وتنشئ التنظيمات والأحزاب والمجاميع الإرهابية المتطرفة وتدرّبها وتدعمها تمهيداً لاستعمالها في تثبيت أركان سلطتها القهريّة، وتهيّء بأساليبها وممارساتها القمعيّة والعنفيّة لولادة ونشوء جميع أشكال التطرف والإرهاب في المجتمعات.
تنطلق الدول في دفاعها عن وجودها وعن حقوق مواطنيها المنتهكة استناداً إلى القوانين والأعراف، أي من ذات المنطلق الذي يدافع فيه المواطن عن حقوقه، فالدولة، وإن كانت شخصاً اعتباريّاً، إلاّ أنها مجرّد كيانٍ يمثّل مواطنيها، وبحسب الفيلسوف الأميركي “مايكل والترز”: إنّ حقوق الدول وواجباتها ليست أكثر من حقوق الأشخاص الذين يشكلونها وواجباتهم. وبهذا المعنى يغدو الدفاع عن سلامة الدولة وأمنها فرضاً يتعدّى الواجب والحرص على الحقوق إلى الالتزام القانونيّ والدستوريّ المطلق بحمايتها.
ولطالما شغلت المفكرين والفلاسفة أسئلة عن الحرب كوسيلة للحماية والدفاع ولاستعادة الحقوق ودرء المخاطر وبسط الأمن..، هل هناك حروب أخلاقية وهل هناك أخلاقيات للحرب، وهل ثمّة حروب عادلة، وقد ظهرت ثلاثة اتجاهات رئيسة توزّعت بين من يعتبر أن الحروب لا تلتفت للمبادئ والقيم والأخلاق، وأنها وسيلة لتنفيذ السياسات واستجلاب المصالح وتحقيق المكاسب، وبين من رأى أنها شرّ مطلق لا يمكن شرعنتها أو تبريرها مهما كانت الأسباب، وثمّة من أقرّ بوجود حروب عادلة ووضع لها معايير ومبادئ وشروطاً ملزمة ينبغي التقيّد بها تشمل مراحلها كافة وتمتد إلى ما بعد نهايتها.
منذ وجدت لم تنعم البشريّة بالسلام والأمن والرخاء ولم تحصد من حروبها التي لم تكد تتوقف سوى الويلات والمآسي، ليس من طرف رابح على الحقيقة في الحرب حيث تتوزّع الخسارات على الجميع، ويتقاسم جميع أطرافها والمشاركون فيها الألم، ولعلّ المنتصر فيها هو من يخرج منها بأقلّ الخسائر..
لا يمكن للمصالح والمكاسب المجرّدة أن تضفي المشروعيّة على الحرب وأن تمنحها أبعاداً قيمية وأخلاقية، بل إنّ الحروب التي تهدف إلى تحقيق مصالح غير مشروعة تعدّ عدواناً يقوّض الأمن والسلام الدوليين، ويدفع بالعالم نحو الجحيم والفناء.
ينبغي للحرب أن تكون حدثاً طارئاً وإجراءاً استثنائياً مؤقتاً ومحدوداً لإصلاح الخلل ولاستعادة التوازن، فالأصل هو السلام، وقد جبل الإنسان على إرادة الخير والحبّ والعدل، وكذلك على العزم في الدفاع عن الذات والوجود والقيم في مواجهة كافة أشكال العدوان التي تستهدف أسس حياته الإنسانية، وأمنه واستقراره، وأسباب نهوضه واستمراره.
الحرب ليست خياراً وآخر العلاج الكيّ. إنها قرار المضطرّ الذي يستجيب لضرورة الخلاص من خطر داهمٍ يفتك بجسد الأمة وينذر باحتمال الموت الوشيك.
لا أحد يمكنه أن يصف الطبيب الجرّاح بأنه جزار وأن قيامه باستئصال ورم خبيث عمل جرمي، بل إنّ امتناعه عن إجراء العمل الجراحيّ للمريض يعدّ حنثاً بالقسم وخروجاً على تقاليد المهنة والقوانين الناظمة لها، لكن لا بدّ اوّلاً وقبل إعمال المبضع من استنفاد جميع الأساليب الأخرى الأقلّ كلفة وألماً، والتأكّد من أن لا سبيل لمعالجة المريض سوى بالاستئصال الذي قد يعني البتر.
يمكن الجزم بأن الحوار والتسامح والصبر وسلوك السبل القانونية واتباع الطرق السلميّة هي الوسائل التي ينبغي اتباعها واستنفاذها أولاً، ولكن بالتأكيد لن يفلح سكوت الضحيّة واستكانتها ومسالمتها في ردع الطاغية الإرهابي المتوحّش الفاقد مقوّمات إنسانيته، والممتلك للثروة والسلطة وكلّ أسباب القوّة الغاشمة.
إنّ الحرب على الإرهاب “أنظمة وتنظيمات” والقضاء على أسبابه ومسببيه هو التزام قانوني وإنسانيّ وأخلاقيّ يقع على عاتق المجتمع الدوليّ ولا يقتصر على الدول المتضرّرة مباشرة، لأنّ الإرهاب في عصرنا التقنيّ الحديث لا يمكن تطويق آثاره وحصر نتائجه، كما لا يمكن رسم حدود جغرافيّة لانتشاره وتمدّده.
إنّ الأنظمة المنتجة للإرهاب والداعمة والمصدّرة لها ينبغي أن تدرج على أجندة العالم المتمدّن، وأن يكون استبدالها بأخرى ديمقراطية أولوية أولى في مشروع التنمية الإنسانيّ وإرساء الأمن والسلم والاستقرار العالميّ.
فهل يصحّ القول بأن الخطوة الأولى للدخول إلى عصر خالٍ من الحروب هي في الحرب العادلة التي تقضي على الإرهاب وصانعيه وتمنع أسباب عودته ونشوئه.
فإذا لم يكن من الحرب بدّ فلتكن الحرب انتصاراً للحق وتجسيداً للعدالة وإنفاذاً لما تتطلبه المبادئ والقيم الإنسانية.
المصدر: اشراق