“الموت للعرب .. القدس لنا” صدحت هذه النداءات ليالي عدة خلال شهر رمضان، من باب دمشق في المدينة القديمة حتى حيّ الشيخ جرّاح، في القدس. عبر “واتساب” تجمع مئات الشباب الإسرائيليين يصرخون بحقدهم العنصري، بعد تلقيهم دعواتٍ إلى “تكسير وجوه العرب ودفنهم أحياء” داعية إلى حضورهم مسلحين. يتوجّهون إلى ضحيتهم، مؤكدين “شكلك عربي” أو “لهجتك عربية” قبل أن ينهالوا عليه ضرباً بالأيدي وبالأرجل وبالأحجار والزجاجات الفارغة. ويسألون اليهود السلميين الذين حاولوا إيقافهم: “أنتم من اليسار؟”. وفي حال الجواب بالإيجاب، ينهالون عليهم ضرباً أيضاً، بمن فيهم الصحافيون.
تدخلت الشرطة بالتأكيد، مستخدمة الغازات المسيلة للدموع والقنابل الصوتية والمدافع المائية والطلقات المطاطية، لكن ضد المعتدى عليهم الذين تجرأوا أن يقاوموا الاعتداءات. وقد جاء، في رسالة عبر وسائل التواصل، أنّ “عرباً سُيحرقون اليوم، الكوكتيل مولوتوف في مستوعب السيارة، سيموت عربيٌ اليوم”. وبمعجزةٍ، لم يمت أحد، لكنّ الجرحى يعدّون بالمئات.
لا يمكن الحديث هنا عن حوادث منعزلة، سببتها مجموعة من المشاغبين المجهولين. هذه الغزوة (البوغروم) على الطريقة الإسرائيلية تهدف إلى “ترميم الكرامة اليهودية” كما ادّعى أصحابها، والكلّ في المدينة المقدسة المنهكة يعرف من ارتكبها: أربع مجموعات منبثقة من الأحزاب التي يعتمد عليها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، محاولاً البقاء في السلطة.
تعرّف الصحافي الشهير في صحيفة “هآرتس” جدعون ليفي، على “كتائب لهافا ومليشيات من الفاميليا وزعران من المستوطنين في التلال”. وقد انضمت إليهم، كما أضاف ليفي “مجموعة جديدة من المتوحشين، مخيفة أكثر من كلّ البقية” وهم المتطرّفون الأرثوذوكس. ويحدد ليفي “مثيري الشغب بقبعات الفرو من الحسيديين، يمكن لهم أن ينتقلوا بإسرائيل إلى نوع من الفاشية لم تعرفه من قبل، وذلك بفضل قدرتهم الانتخابية الكبيرة. إنّهم خزّان الحركة النازية الجديدة التي تتطوّر”.
لا يشكل هذا الاندفاع القوي للعنف العنصري، في حالته الأكثر وحشية، تحريضاً واستفزازاً لاحتفال إسلامي هام فحسب، بل هو يقع غداة انتخاباتٍ تميّزت بتحالفٍ عُقد بين نتنياهو، إلى جانب الأحزاب الأرثوذوكسية الراديكالية من الإشكناز ومن السفارديم، مع حزب صهيوني متدين وقومي متطرّف يعمل على ضمّ مزيد من الأراضي المحتلة، وعلى ترحيل الفلسطينيين. يضم هذا الحزب نوام بيزاليل سموتريش، وهي جماعةٌ معاديةٌ للمثليين، والقوة اليهودية التي يتزعمها إيتمار بن غفير الذي ورث حزب مائير كهانا، كاخ، بعد منع الكنيست هذا الحزب بتهمة العنصرية سنة 1994، إثر مذبحةٍ ارتكبها أحد أفرادُه في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل، مسبباً استشهاد 29 فلسطينياً مسلماً.
وللمرّة الأولى منذ ذلك التاريخ، يعود هؤلاء الفاشيون “اليهود النازيون”، كما يسميهم يشعياهو ليبوفيتش، إلى الكنيست، بفضل ضمانة رئيس الليكود، نتنياهو، والاتفاق على تقاسم البقايا معه. فمن نسبة 0.42% من الأصوات في انتخابات مارس/ آذار 2020، لم يحصلوا بها على أيّ مقعد، وصل هؤلاء “الصهاينة المتدينون” بعد عام إلى نسبة 5.11% من الأصوات، فحصلوا على ستة مقاعد.
لا يفيد السعي إلى فهم غطرسة شباب الهوليغنز في القدس، فتصريحات زعيمي اليمين المتطرّف أخيراً، بدت كأنّها دعوة إلى الهجوم الانتقامي على الفلسطينيين.
في حديثه للإذاعة الإسرائيلية، اعتبر حاخام صفد، صاموئيل الياهو، أنّ “أرض إسرائيل تتقيأ العرب”. ورداً عليه، اعتبر النائب أحمد الطيبي أنّه “عنصري قذر، أكرهه. فالحاخام لا يمكن له أن يتكلم بهذه اللغة. ولو تحدّث شيخ مسلم بهذا الأسلوب عن اليهود، يجب أيضاً أن يُدان”. وأمام الكنيست، في السابع من إبريل/ نيسان الماضي، رد النائب بيزاليل سموتريش على الطيبي: “المسلم الحقيقي يجب أن يعرف أنّ أرض إسرائيل هي للشعب اليهودي، ومع الوقت، فالعرب مثلك ممن لا يعترفون بذلك، لن يبقوا هنا. وسيسهر على تنفيذ ذلك الحاخام صاموئيل ومريدوه، وأنا منهم”. وقبل أيام، ذهب سموتريش إلى أبعد من ذلك، قائلاً إنّ العرب هم مواطنون في إسرائيل “حتى هذه اللحظة على الأقل”. أما إيتمار بن غفير، فقد اعتبر في تصريح له في فبراير/ شباط الماضي، مائير كاهانا “قدّيساً” و”بطلاً”. وبحسب قوله، فهو يتمايز عن سموتريش فقط بخصوص طرد كلّ العرب الإسرائيليين، فهو يكتفي بطرد “أولئك الذين لا يدينون بالولاء للدولة”. وقبل انتخابات مارس/ آذار الماضي بأيام، صرّح بغطرسة: “الأمن يجب أن يعود” في المناطق التي تقطنها غالبية من العرب، من شمال البلاد إلى جنوبها، والتي تسودها، حسب تعبيره “فوضى شاملة”. وأضاف: “يجب على أحد أن يتولى الأمر، وأنا هو”. وغداة الانتخابات، كتب في موقع رابطة الدفاع اليهودية منتشياً: “جرى انتخاب أخينا إيتمار بن غفير للكنيست”.
… أعمل، منذ أكثر من نصف قرن، على الصراع الإسرائيلي ـ الفلسطيني، صحافياً ومؤرّخاً. زرت المنطقة سنوياً تقريباً. حاولت أن أحلّل حروب إسرائيل، والمجازر التي نجمت عنها، وتهجير الفلسطينيين، والاحتلال والاستيطان الذي جرى لأرضهم، وجرائم كثيرة. منذ قرابة القرن، لم يتوقف تصاعد العنف، والفلسطينيون كانوا وما زالوا الضحايا الأساسيين. في المقابل، لم يسبق لي أن عايشت هجمةً بربريةً جماعية استمرت أسبوعاً في القدس كهذه.
يمكن القول إنّ ما كتبه المأسوف عليه، زئيف ستيرنل، في صحيفة “لوموند” سنة 2018، كان استشعاراً مسبقاً، حين قال: “إنّ عنصرية تقارب النازية في بداياتها تنمو في إسرائيل”. ونحن كنا نعرف أنّ نتنياهو مستعدٌّ لأن يطلق مواجهة مع إيران، ليمنع اتفاقاً بين واشنطن وطهران، ولينقذ بالتالي “عرشه”. ويبدو أنّه يحلم ربما بانتفاضةٍ ثالثة، تسمح له بأن يفرض حكومة طوارئ وطنية، لم يتمكّن من تشكيلها.
طرحت، في مدونتي، على زملائي الصحافيين: “لماذا لا تتحدّث وسائل الإعلام الكبرى التي تعملون فيها، عدا استثناءات مباركة، عن هذه الأحداث الفظيعة في ما يتعلق بحقوق الإنسان، وكذلك ما سينجم عنها من نتائج كارثية في مجمل منطقة الشرق الأوسط؟ هل مجرّد أن يكون المرء إسرائيلياً يُسمح له بأن يرتكب جرائم من دون عقاب، كما يجب أن تتجاهلها وسائل الإعلام؟”. اسمحوا لي، في الختام، أن أضيف التالي: “برأيكم، إن صاح الهمجيون الفاشيون في القدس: الموت لليهود، القدس لنا… هل كانت إدارات صحفكم ستعطي، إن هي أعطت، التوجيهات نفسها؟ هل ستكون ردة فعلكم مشابهة؟”. أكرّر: أشعر بالعار كفرنسي وكصحافي وكيهودي.
المصدر: العربي الجديد