ليس شعاراً كمطلب من مطالب التغيير السياسي في الواقع العربي ، فالواقع العربي لم يعد بحاجة إلى مثل هذا ، ذلك أن كل الدول العربية قد استقرت سياسياً على النظام العَلماني ، وإن كان النظام العلماني – بالمفهوم الذي يتناوله البحث – براء من كل الأنظمة العربية المعاصرة دون استثناء .. فالعَلمانية كما نشأت في عالم الغرب كانت البوابة الكبرى إلى عصر النهضة والحرية ودولة المواطنة والديمقراطية وسيادة القانون .. والأنظمة العربية المعاصرة بكل مؤسساتها وشخوصها من القمة إلى القاعدة تمثل قمة الانحطاط والتخلف والقمع والاستبداد ..
وليس دفاعاً عن العلمانية أمام الدعوات المضادة مهما علا ضجيجها ، وقد هـُـزمت شرّ هزيمة ، ولا زالت تكابر دفاعاً عن مواقف معلبة متكلسة مستوردة من خارج حدود العصر ، وقد حققت العلمانية انتصاراً ساحقاً بعد أن فرضت نفسها في عالم السياسة المعاصر كأرقى ما توصل إليه الفكر الإنساني في إطار هندسة وبناء الدولة المعاصرة ، وأصبحت حقيقة راسخة بعالمنا المعاصر ، ولا عودة بحركة التاريخ إلى دولة ما قبل العلمانية .
إنما انتصاراً للحقيقة ، وبياناً لحقيقة العلمانية ومسار تطورها منذ نشأتها الأولى إلى أن وصلت إلى ما استقرت عليه .. وذلك رداً على ما يتداوله الغالبية الساحقة من معارضيها بعالمنا العربي من اتهامات ، بأنها دعوة للكفر والإلحاد وإقصاء الدين عن حياة الإنسان والمجتمع البشري .. حتى اصبحت العلمانية – وعن جهل – بأذهان معارضيها من عامة الناس والمتثاقفين وحتى المثقفين منهم مرادفاً لمفهوم الكفر والإلحاد والتحلل الأخلاقي والإباحية .. وأصبح العلماني لديهم هو الكافر والملحد و .. و .. إلخ من هذه الافتراءات الزائفة ..
رداً على تلك الافتراءات ، نستطلع قصة العلمانية وتطورها تاريخياً منذ نشأتها الأولى إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه ، وسبيلنا إلى ذلك الموضوعية والمنهجية العلمية بعيداً عن الأهواء الخاصة والمواقف المعلّـبة ..
منهجياً وعلمياً .. لفهم أي ظاهرة بعالم الإنسان أياً كان مضمونها ، وإدراكاً لحقيقتها موضوعياً بعيداً عن الأهواء الخاصة والمواقف المسبقة ، لا بد من وضعها بموقعها الحقيقي زماناً ومكاناً في إطار الظروف والعوامل والأسباب التي تفاعلت تاريخياً فأنتجتها أو أسهمت بإنتاجها .. وبهذا المنطق نتناول العلمانية منذ نشأتها الأولى كفكرة فلسفية إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه سياسياً ( فصل الدين عن السياسة / فصل الدين عن الدولة ) ..
بداية .. في المفهوم والنشأة أولاً :
العلمانية كمصطلح عربي حديث ، جاء ترجمة للمصطلح اللاتيني Saecular) ( .. مصطلح مشتق من كلمة (Saeculum ) التي تعني بالعربية ( العصر ، الجيل ، القرن ، العالم ، الدنيا ) ، ومنها المصطلح الانكليزي ( Secularism ) بمعنى العالمي أو الدنيوي الواقعي .. يقابله المفهوم المضاد ( العالم الآخر ، عالم ما فوق الواقع ، الميتافيزيقي ، الكهنوتي ) .
من وحي هذه المفردات ، فالعلمانية رؤية فكرية فلسفية شاملة للكون ( الله والإنسان والطبيعة ) .. تنظر إلى ( الكون / العالم ) الذي يعيش فيه الإنسان رؤية زمانية مادية .. باعتباره العالم المادي المدرك المحسوس / عالم الشهادة .. تتجاهل العالم الآخر / عالم الغيب الميتافيزيقي غير المدرك وغير المحسوس .. ترى أن العالم المادي الذي يعيش فيه الإنسان ، يحتوي من الأدلة والبراهين ومن القوانين العلمية الموضوعية كل ما يحتاجه الإنسان للوصول إلى الحقائق التي تتعلق بتفسير هذا العالم بكل أحداثه وظواهره ، ولا حاجة للإنسان أن يسبح بفضاء اللاهوت وما وراء الواقع بحثاً عن هذه الحقائق .. باختصار تلك هي البذور الأولى .. إنها فكرة لتأصيل منهجية علمية في التفكير الإنساني ، قبل أن تكون نظرية فكرية أو فلسفية ..
ليست جديدة تلك المنهجية وصولاً إلى الحقيقة ، فقد عرفها الإغريق الأوائل منذ قرون وقرون ، ومن خلالها أجاب أرسطو مثلاً على كثير من أسئلة الواقع التي أغرقت فلسفة اللاهوت بفلسفتها بعيداً عن منطق العلم ، ومن خلالها آمن بوجود الإله الخالق العظيم ووحدانيته ، وطرح رؤية إيمانية للعلاقة بين الدين والدنيا ، تنطلق من الإيمان بوجود الإله بعالم السماء ، وبأن الإله هو الخالق لكل شيء في عالم الوجود ، إلا أنه قد نأى بنفسه عن التدخل بشؤون خلقه ، بعد أن أحكم تصميم وهندسة وبناء عالم الوجود وفقاً لمنظومة نواميس تعمل بشكل حتمي وتلقائي على ضبط حركة الأشياء والظواهر في عالم الوجود .
من وحي هذه الفلسفة :
– يكون مصطلح ( العالـَم ) هو الجذر اللغوي لمصطلح العلمانية ، ليكون أساس المصطلح ( عالَـمانية ) كما ترجمه من اللغة الفرنسية إلى العربية لأول مرة ( الياس بقطر المصري ) سنة 1828 ، ليستقر المصطلح أخيراً في اللغة العربية بصيغة ( عَـلمانية ) / بفتح العين .
– يكون العَـلماني هو من يهتم فقط بهذا العالم المادي .. العالم الآني المرئي المحسوس والملموس .. يتجاهل العالم الآخر الميتافيزيقي اللاهوتي غير المرئي وغير المحسوس والملموس .. يتركه لصنوف أخرى من المعارف الإنسانية الروحية ( اللاهوت والصوفية مثلاً ، وغيرهما ) ..
هذا باختصار عن دلالة المصطلح وعن جوهر المفهوم ، وهذا باختصار جذر العلمانية كما وردتنا فكرياً من الغرب .. وتلك هي النشأة الأولى للفكرة فلسفياً .. ولسنا بحاجة إلى الإغراق في التفاصيل في سياق هذا البحث ، الأهم هو تتبع مسارها التطوري باتجاه ما وصلت إليه أخيراً في سياق تطورها التاريخي .. حيث خرجت أخيراً عن متاهة هذه الأعماق الفلسفية وأخذت طابعاً سياسياً بحتاً .. بمفهوم آخر أقل شمولية وأقل عمقاً ، مفهوم سياسي بحت عبرت عنه باختصار فكرة ( فصل الدين عن الدولة ) ..
لم تأت فكرة فصل الدين عن الدولة عداءً للدين كما يدعي معارضو العلمانية ، إنما جاءت رداً على واقع كارثي معقد ، تجلى بثلاثة مظاهر مأساوية على صلة وثيقة بالدين ، عانت منها المجتمعات الأوروبية قروناً طويلة :
1- المظهر الأول .. احتكار الكنيسة للعلم والمعرفة ، وتغولها باسم الدين بفرض ثقافة الكهنوت على العلماء والفلاسفة .. حاربت كل أصناف العلوم الدنيوية واعتبرتها زندقة وضلالاً وكفراً وخروجاً عن الدين .. كبلت العقل الأوروبي وشلت قدرته على التفكير خارج إطار الدين .. والنتيجة : الجهل والتخلف والانحطاط في عالم الغرب على امتداد ما يعرف بالقرون الوسطى .
2- المظهر الثاني .. تغول القياصرة قمعاً واستبداداً .. استناداً إلى نظرية ( الحق الإلهي المقدس في السلطة ) .. نظرية شرعتها الكنيسة باسم الدين ادعاءً بأن قيصر ممثل لإله السماء في عالم الأرض .
3- المظهر الثالث .. الحروب الأهلية الدينية المذهبية التي طحنت المجتمعات الأوروبية منذ مطلع القرن السادس عشر واستمرت قرابة قرن ونصف ( ما بين عامي 1517 و 1648 ) .. حصدت مئات الآلاف من الضحايا ، بفتوى من رجال الدين ومباركة الكنائس المختلفة مذهبياً تحت شعار الحرب المقدسة في مواجهة الكفرة والهراطقة ..
وفي متاهة هذه الأجواء الكارثية ، عاشت المجتمعات الأوروبية قروناً طويلة تحت وطأة سلطة استبدادية مزدوجة ، تكاملت فيها الأدوار بين طرفين متزاوجين ، كل منهما يستمد شرعيته الزائفة من الآخر ، وكل منهما يستمد قوته من الآخر .. الطرف الأول هو السلطة الدينية متمثلة في الكنيسة وطبقة رجال الدين .. الطرف الثاني هو السلطة السياسية الحاكمة متمثلة بقيصر وطبقة النبلاء .. الكنيسة تدعم قيصر بتشريع القمع والاستبداد السياسي باسم الدين ، وقيصر يدعم الكنيسة بقوة القانون وأدواته لردع الخارجين عن أحكام الكنيسة ورؤاها الثقافية المتخلفة .. وهكذا تكاملت الأدوار لفرض ثقافة العبودية والاستبداد خضوعاً لعرش قيصر باعتباره وكيلاً عن السماء بإدارة شؤون الدولة .. مدعوماً بشرعية دينية مقدسة عبرت عنها فتوى الكنيسة : (( من يقاوم السلطة السياسية يقاوم ارادة الله ويستحق إدانة الكنيسة )) ، ومن أدانته الكنيسة تعقبته محاكم التفتيش الكنسية وأدواتها باسم الدين ، فاستحق المقصلة أو الموت عذاباً في السجون والمعتقلات بقوة القانون تنفيذاً لإرادة قيصر ممثل السماء في عالم الأرض .
للخروج من هذا الواقع المأساوي .. كانت البداية في أوائل القرن السادس عشر مع ” حركة الإصلاح الديني ” .. أطلق شعلتها الأولى سنة 1520 رجل من رجال الدين ومن داخل الكنيسة الكاثوليكية “مارتن لوثر “.. وعلى خطاه تابع ” جان كيلفن ” بدءاً من عام 1536 ليتابع الحركة آخرون وآخرون من الوسط الديني ..
بداية الحركة كانت المطالبة بإطلاق حرية الكنائس الوطنية في الاجتهاد ، في مواجهة استبداد الكنيسة الكاثوليكية في روما التي احتكرت الرأي والقرار على كامل القارة الأوروبية ، واعتبرت مخالفيها هراطقة كفرة خارجين عن الديانة المسيحية .. واحتكرت تفسير ( الإنجيل ) ، وحرّمت ترجمته إلى أي لغة أخرى غير اللاتينية القديمة التي لا يجيدها إلا رجال الدين تلاميذ الكنيسة ، لكي يبقى عصياً على القراءة والفهم إلا من خلال رجال الدين كما تملي عليهم الكنيسة ..
أبرز نتائج حركة الإصلاح الديني ظهور البروتستانتية كمذهب ثالث في الديانة المسيحية بعد الأرثذوكسية والكاثوليك ، يرفض الكثير من معتقدات وبدع الكاثوليكية التي أساءت للدين .. والتسمية جاءت اشتقاقاً من كلمة (Protest ) ومعناها ( الاحتجاج والمعارضة ) .
لم تقف حركة الإصلاح الديني المعارضة عند هذه الحدود ، ذلك أن ثقافة الكنيسة أسهمت بتسطيح العقل الأوروبي قروناً طويلة بثقافة سطحية لاهوتية ، لا دور فيها للعقل إلا النقل من أساطير الكهنوت المسيحي ، لهذا انضم إلى حركة الإصلاح الديني مثقفون وأدباء وفلاسفة ومفكرون من خارج الوسط الديني ، فأطلقوا ما تعرف بحركة التنوير التي اسست لبداية عصر النهضة في أوروبا ..
شكلت حركة التنوير تياراً عقلانياً ثورياً ، تبنى النواة الفكرية الأولى لفكرة العلمانية لإخراج العقل الأوروبي من ظلمات الكهنوت المسيحي إلى فضاء التنوير العقلي ، اعتماداً على فكرة ( الثقة بقدرة العقل على إدراك الحقيقة ، فالعقل هو مصدر العلم والمعرفة ، أما الوحي الإلهي لم يكن إلا تعبيراً عما يدور في فضاء العقل ذاته ) ، وهي الفكرة التي نشرها في عالم الغرب فريق من المتنورين الإصلاحيين تأثروا بكتابات الفيلسوف العربي ابن رشد ، فأطلق عليهم ” المدرسة الرشدية ” ..
اتجه فلاسفة ومفكرو المدرسة الرشدية إلى إحياء التراث اليوناني والروماني ، وقد تعرفوا عليه عن طريق الترجمة الإسلامية لهذا التراث ، كان مشروعهم الاساسي إعلاء شأن العقل .. ليس كناقل أو خادم للوحي كما تريد الكنيسة ، إنما كخالق ومبدع وقائد لحركة التغيير والتطوير في عالم الإنسان ، ومن هنا بدأ العقل الأوروبي يتحرر تدريجياً من قيود الكنيسة التي لم تكن تسمح بأكثر من التوفيق بين النقل والعقل خدمة للدين لا لخدمة الإنسان ، وفيما عدا ذلك قمعت واضطهدت أي محاولة عقلية تتجاوز حدود النقل .
لا أحد ينكر أن البعض من قادة حركة التنوير كانوا من الملحدين .. لكن بالمقابل كان هناك مؤمنون متدينون آمنوا بالإله وبالدين عن طريق العقل ، ودافعوا عن الدين بسلاح العقل .. وفي كلا الاتجاهين لم يكن الدين هو اهتمام حركة التنوير ، إنما تمحور حول مبادئ المدرسة الرشدية لإعلاء شأن العقل بعيداً عن فلسفة الدين واللاهوت ، ومن هنا بدأت حركة التنوير حركة فكرية ثقافية أولاً ، ومن ثم تنامت وتصاعدت معارضة لفلسفة الحكم والدولة ، الفلسفة التي لخصها لويس الرابع عشر بمقولته الشهيرة ( الدولة هي أنا ) ، وجاء بعده لويس الخامس عشر ليقول مستنداً إلى تشريعات الكنيسة : ( إن حق إصدار القوانين هو حقنا نحن .. دون قيد ودون شريك ، إن النظام العام كله ينبع مني أنا ، وكل حقوق ومصالح الأمة متحدة مع حقوقي ومصالحي أنا ، وليس لها مكان إلا بين يدي أنا ) .. رداً على هذه الهرطقة الفكرية السياسية تنامت وتصاعدت حركة التنوير على مدى قرنين من الزمن ، إلى أن تحولت إلى ثورة سياسية أطاحت برأس لويس السادس عشر آخر قياصرة فرنسا سنة 1798 ، مثلما أطاحت برؤوس البعض من رجال الدين تحت شعار رفعه الثوار وكانوا على حق : ( اشنقوا آخر قيصر بأمعاء آخر رجل دين ) ، وذلك جزاءً لما اقترفه القياصرة ورجال الدين من جرائم بحق المجتمعات الأوروبية ..
بانتصار الثورة الفرنسية تبنت حركة التنوير بشكل واضح صريح فكرة العلمانية بمفهومها السياسي البسيط ( فصل الدين عن الدولة ) ، فكرة أطلقها فريقان من الوسط الفكري والسياسي ، الأول فريق من المؤمنين المتدينين ومنهم رجال دين ، والثاني فريق من اللا متدينين ومنهم الكفرة والملحدين .. وإن كان لكل من الفريقين دوافعه وأهدافه الخاصة ، فإن الهدف المشترك هو الخروج من متاهة الجهل والتخلف والانحطاط والاستبداد .. أما عن الدوافع المختلفة لكل من الفريقين :
– فالدافع عند الفريق الأول فريق المؤمنين المتدينين ، فهو إعادة العلاقة بين الدين والدولة إلى مسارها الصحيح وفقاً لتعاليم السيد المسيح ، العودة إلى ركن أساسي من أركان الديانة المسيحية وهو ( الفصل بين الدين والدولة ) .
– أما الدافع عند الفريق الثاني ، فهو إبعاد الكنيسة عن السياسة لتحرير السياسة من قيود الدين ، بالتالي إخضاع السياسة لمعطيات الواقع وتعاليم العقل البشري بعيداً عن فلسفة ما وراء الواقع وأساطير الكهنوت المسيحي ، ليبقى الدين عند من يشاء هو الرابط الروحي في العلاقة بينه وبين الإله ، ومن آمن بالإله فليذهب إلى الكنيسة إذا شاء ، ومتى يشاء ، وهناك فليسجد للإله كما يشاء .
الدعوة منذ انطلاقتها الأولى فكرياً ، لم تلق أية معارضة تذكر بأوساط المجتمع الأوروبي بكل مستوياته ، حيث جاءت منسجمة تماماً مع الموروث الثقافي والفكري في أوروبا ، ذلك الموروث الذي شكلته ثلاثة منابع أساسية للثقافة الأوروبية ( الفلسفة اليونانية ، وفلسفة التشريع الروماني ، والديانة المسيحية ) ..
أبرز هذه المنابع هو الديانة المسيحية .. كمرجعية فكرية ثقافية يتجاوز تأثيرها دوائر النخبة إلى عموم الأوساط الشعبية .. وقد جاء السيد المسيح داعية إلى دين ولم يأتِ داعياً إلى دولة .. نأى بنفسه تماماً عن التدخل بشؤون الدولة : ( مملكتي ليست في هذا العالم ، مملكتي في العالم الآخر ) ، ( اعط ما لقيصر لقيصر ، وما لله لله ) .. دعوة صريحة واضحة إلى الفصل التام ما بين الدين والدولة .. ما بين السلطة الدينية والسلطة السياسية .
لهذا جاءت العلمانية منسجمة تماماً مع الموروث الثقافي في عالم الغرب ، واتفق عليها المؤمنون والملحدون على حد سواء مهما اختلفت مستوياتهم الثقافية ….
من رحم هذا المناخ السياسي والثقافي ولدت العلمانية ، فجاءت وليداً شرعياً مشروعاً لهذا الواقع ، مثلما جاءت انعطافاً تاريخياً ثورياً ، فكانت البوابة التاريخية الكبرى التي أخرجت أوروبا من ظلمات العصور الوسطى إلى عصر الخلق والإبداع والتطور العلمي ، مثلما أرست الدعائم الأولى لبناء دولة المواطنة على شرعية جديدة كعقد اجتماعي توافقي بين السلطة السياسية والشعب بكل أطيافه الدينية والعرقية والسياسية .
وإن كان انتصار العلمانية قد تزامن مع ظاهرة تراجع منظومة القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية العليا في المجتمعات الغربية المعاصرة كما يرى معارضو العلمانية ، فذلك وزر ظاهرة كبرى تزامنت مع انتصار العلمانية ، وهي ظاهرة نشوء وسيطرة النظام الرأسمالي كثمرة من ثمار الثورة الصناعية ، بالتالي سيادة ثقافة المجتمع المادي الاستهلاكي التي أنتجها وأشاعها النظام الرأسمالي ، فأحدثت تغييراً جذرياً بنمط الحياة الاقتصادية والاجتماعية ، وانعكست آثارها سلباً على منظومة القيم الأخلاقية التي رسخها الدين ، فأصبح الإنسان ( فرداً ومجتمعاً ) يعيش بفضاء الحياة المادية الدنيوية حالة من الغربة والاغتراب عن جوهره الإنساني .. كل ذلك أمام عجز الكنيسة ومؤسساتها التربوية والثقافية عن مواجهة أدوات ومؤسسات النظام الرأسمالي بإغراءاته المادية وإمكانياته المالية الهائلة مستثمراً ما أنتجته الثورة العلمية من وسائل وأساليب وأدوات التأثير في الرأي العام .
تلك هي قصة العلمانية فلسفة وفكراً وثقافة وحركة كما نشأت منذ انطلاقتها الأولى .. إلى أن استقرت ثقافياً على مفهوم سياسي بحت ( إبعاد الدين عن السياسة ، وفصل الدين عن الدولة ) .. فكان العلمانيون الأوائل في الغرب كما وصفهم الدكتور محمد عمارة في كتابه الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين : (( اولئك الذين رفضوا تدخل الكنيسة أو سيطرتها ، وتدخل اللاهوت المسيحي ومعاييره في شئون الدولة ومؤسساتها وفكرها الدنيوي ، وجعلوا العالم والواقع والدنيا المنطق الوحيد والمصدر الأوحد للفكر والممارسات الدنيوية في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعلم والتعليم والإعلام .. إنهم الطلائع الغربية التي قادت النهضة الحديثة في الغرب ، في مواجهة الكنيسة ولاهوتها وسلطتها الدينية ، فاستخلصت الدولة والمجتمع من قالب قدسية التصورات الكنسية التي فرضت عليها الجمود والتخلف لعدة قرون )) .
أهم الإنجازات السياسية للطلائع العلمانية إرساء أسس وأركان النظام الديمقراطي على قاعدة ( الدين لله والوطن للجميع ) .. وتجسيداً لهذه القاعدة ، لم تتعرض العلمانية للدين والمؤسسات الدينية ، بل حافظت الكنيسة على كيانها كسلطة دينية ، تمارس نشاطها الديني بحرية مطلقة ، وتفتح أبواب معابدها لكل المتدينين لأداء شعائر العبادة وطقوس الدين وتنظيم العلاقات القانونية الشرعية وفقاً لشريعة الإنجيل …
تلك هي قصة العلمانية نشأة وتطوراً ومآلاً .. فماذا عن صدى العلمانية في العالم العربي ؟؟ :
حدث .. وظاهرة .. تزامنا وتكاملا معاً بإثارة ضجة صاخبة حول العلمانية بفضاء الفكر والثقافة العربية ، ولولاهما لظلت العلمانية شأناً أوروبياً لا يثير اي اهتمام في الوسط الثقافي العربي ، إلا اللهم ترفاً ثقافياً بأوساط النخبة الثقافية ، أو علماً ومعرفة أمام الباحثين بتاريخ الفكر والثقافة في عالم الغرب ..
الحدث .. هو تفكك وسقوط الامبراطورية العثمانية وإلغاء نظام الخلافة سنة 1924 ، وإعلان النظام الجمهوري العلماني في تركيا بقيادة ” مصطفى كمال ” .. حدث اثار غضب أنصار دولة الخلافة العثمانية من الإسلاميين العرب ، علماً بأن الحدث كان أمنية من أماني طبقة النخبة المستنيرة في الأوساط التركية بكل اتجاهاتها الفكرية والسياسية .. وتقديراً لمصطفى كمال أجمع الأتراك على منحه لقب ( أتاتورك / أبو الأتراك ) ، والغالبية الساحقة من الأتراك لا تزال تعتبره الرمز الأول لحركة النهوض والتقدم في تركيا المعاصرة ، بما فيها حزب العدالة والتنمية الحاكم المحسوب على الإسلام السياسي من قبل الإسلاميين العرب ..
من أبرز نتائج الحدث كما يرى أنصار دولة الخلافة من الإسلاميين ، خلو عالم المسلمين للمرة الأولى بتاريخ الإسلام من منصب ( الخليفة ) ، وهذا فتح الأبواب أمام الطامحين إلى هذا المنصب ، رغم أنه أصبح منصباً رمزياً ، بلا أدنى سلطة للخليفة في عالم المسلمين إلا في حدود الدولة التي يحكمها بشرعية السيف لا بشرعية الإسلام .. وأول الطامحين آنذاك كان الملك فؤاد ملك مصر ، ليلحق به فيما بعد الملك عبدالعزيز آل سعود معارضاً ومنافساً ، فهو الأحق بالخلافة كما يرى باعتباره الحاكم السياسي للديار الإسلامية المقدسة ..
أوعز الملك فؤاد إلى فقهاء عرشه من علماء الأزهر بدعم موقفه ، فأجمعت هيئة علماء الأزهر على أهمية منصب الخليفة كضرورة دينية للإسلام بعالم المسلمين ، وذلك تمهيداً لتتويج الملك فؤاد خليفة للمسلمين ..
الشيخ علي عبدالرزاق وهو أحد علماء الأزهر رفض هذه الفتوى واعتبرها خروجاً عن اصول الحكم في الإسلام .. أصدر كتابه الشهير ” الإسلام وأصول الحكم ” ، وهو الكتاب الذي قاده إلى المحكمة وفصله من مؤسسة الأزهر وتجريده من كافة حقوقه الأزهرية ادعاءً بتضليل المسلمين ونشر بدعة العلمانية في عالم الإسلام ..
لم تقف القضية عند هذا المستوى ، وقد أثارت موجة صاخبة من الجدل بأوساط المثقفين بين مؤيد ومعارض .. وهذا موضوع آخر ، لسنا بصدده .
أما الظاهرة .. فهي دعوة الرواد الأوائل لفكرة الحداثة والتطوير في العالم العربي لتبني العلمانية اقتداءً بالغرب ، رداً على حالة التخلف والانحطاط والاستبداد التي سادت في الوطن العربي خلال حقبة الاحتلال العثماني الذي أخذ طابعاً دينياً تحت مسمى دولة الخلافة .. والأوضاع العربية طيلة هذه الحقبة ، لم تكن تختلف كثيراً عما هي في الغرب .. جهل وتخلف وانحطاط واستبداد باسم الدين على مدى أربعة قرون ، كما هي الحال تماماً في عالم الغرب المسيحي رغم اختلاف الديانتين .
تصدى للدعوة أنصار دولة الخلافة من الإسلاميين دفاعاً عن نموذج دولة الخلافة ، وكأنه باعتقادهم ركناً من أركان الإسلام أو أصلاً من أصول الدين ، وهذا لا سند له بأي نص من نصوص الدين ، لا قرآناً ولا سنة ، فالرسول الكريم قد غادر إلى ملكوت السماء ولم يوص المسلمين بأي نموذج من نماذج الدول ، أهم ما ترك لهم بسنته الشريفة بعالم السياسة مبدأ الحفاظ على الدولة بأي نموذج يختارون ، حفاظاً على وحدتهم واستقلالهم السياسي بين الدول المحيطة .. وآية ذلك أن نظام الخلافة لم يكن نظاماً إسلامياً ، بمعنى أنه نموذج سياسي دنيوي ، وليس فرضاً دينياً إسلامياً على المسلمين ، فهو نظام سياسي مدني ، قابل للتغير والتطور تبعاً لمتغيرات العصور ومستجداتها ..
وإن كانت دولة الخلافة الإسلامية الأولى هي النموذج الأمثل بعصرها – وقد كانت كذلك حقاً ، حيث جاءت خروجاً عن المألوف بعصرها من أنظمة الحكم الامبراطوري الاستبدادية ، كسروية فارس مثلاً أو قيصرية الروم – فلكل عصر نموذجه الأمثل الذي يتناسب مع خصوصياته ومستجداته .. والإسلام كدين مثل أي دين آخر ، غير متوقف على أي نموذج من نماذج الدول والحكم ، لو كان مرتبطاً بنموذج دولة الخلافة لاضمحل وانتهى منذ سقوط دولة الخلافة الراشدة .. بل إن شعائر الله ومظاهر دينه الكريم كما يقول الشيخ علي عبدالرزاق : (( لا تتوقف على ذلك النوع من الحكومة الذي يسميه الفقهاء خلافة ، ولا على أولئك الذين يلقبهم الناس خلفاء ، والواقع أيضاً أن صلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك ، فليس بنا من حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا لأمور دنيانا … وإن رجعنا إلى التاريخ الإسلامي .. فإن الخلافة في الإسلام لم ترتكز إلا على أساس القوة الرهيبة ، وأن تلك القوة كانت – إلا في النادر – قوة مادية مسلحة ، فلم يكن للخليفة ما يحوط مقامه إلا الرماح والسيوف ، والجيش المدجج والبأس الشديد ، فبتلك دون غيرها يطمئن مركزه ويتم أمره .. قد يسهل التردد في أن الثلاثة الأول من الخلفاء الراشدين قد أشادوا مقامهم على أساس القوة المادية وبنوه على قواعد الغلبة والقهر .. ولكن : أيسهل الشك في أن علياً ومعاوية رضي الله عنهما لم يتبوأا عرش الخلافة إلا تحت ظلال السيوف وعلى أسنة الرماح ؟؟؟ وكذلك الخلفاء من بعدُ إلى يومنا هذا .. لا نشك مطلقاً في أن الغلبة كانت دائماً عماد دولة الخلافة ، ولا يذكر التاريخ لنا خليفة إلا اقترن في أذهاننا بتلك الرهبة المسلحة التي تحوطه والقوة القاهرة التي تظله والسيوف المصلتة التي تذود عنه )) ….
هذا هو باختصار موقف الإسلام الدين من نموذج دولة الخلافة ، وتلك باختصار طبيعة دولة الخلافة في التاريخ العربي الإسلامي منذ سقوط دولة الخلافة الراشدة إلى حين سقوط خلافة آل عثمان ، مع ذلك لا زال هناك من يدعو إلى استنساخ نموذج دولة الخلافة .. وكأن نموذج دولة الخلافة ركن من أركان الدين ، أو اصل من أصول الحكم في الإسلام الدين ..
وإن تجاوزنا الحديث عن نموذج دولة الخلافة إلى ما هو أبعد ، استطلاعاً لكتابات وأبحاث بعض المفكرين والباحثين العرب ، وخاصة الإسلاميين منهم ، نجد أن معظمهم قد أغرق كثيراً في البحث عن أسس واصول الحكم في الإسلام الدين والتاريخ .. لاستلهامها في بناء دولة المسلمين المعاصرة ، وكأن الإسلام الدين وحركة التاريخ يُحرّمان سُنـة التطور السياسي في عالم المسلمين كغيرهم من أمم الأرض .. ولا زال هذا البعض يدور بحلقة جدلية مفرغة .. شكل من اشكال الترف الفكري .. هو أقرب إلى جدل المترفين من فلاسفة بيزنطا أثناء حصار طروادة ..
وإلى هؤلاء المترفين ، يكفي أن نذكرهم بأن الإسلام الدين (( لم يحدد للمسلمين نظاماً محدداً للحكم ، لأن منطق صلاحية الدين الإسلامي لكل زمان ومكان يقتضي ترك النظم المتجددة قطعاً بحكم التطور للعقل الإنساني الرشيد ، يصوغها وفقاً لمصلحة المجموع ، وفي إطار الوصايا العامة والقواعد الكلية التي قررها هذا الدين )) / د .محمد عمارة / الإسلام والسلطة الدينية .
والإسلام الدين قرآناً وسنة ، لم يلزم المسلمين بأي نموذج من نماذج الدول ، ولم يضع لهم نظاماً سياسياً محدداً أو نظرية سياسية في الحكم ، أو تشريعاً مقدساً بأي فرع من فروع السياسة ، باعتبار السياسة شأن دنيوي مدني متغير في الزمان والمكان ، إنما وضع لهم ( قواعد ومعايير منهجية ، وأحكام ومقاصد ثابتة ، تستهدف تحقيق المصالح العليا المتغيرة والمتجددة للأمة ) ، منها تستنبط النظريات السياسية بكل مضامينها الاجتماعية والاقتصادية والإدارية وغيرها .. تأخذ بالاعتبار سنة التغير والتحول والتطور ، واي نموذج يضمن تحقيق مصالح الأمة فهو المطلوب إسلامياً ..
ورغم الجهود المضنية لهؤلاء المفكرين والباحثين ، لم يقدم لنا أي منهم نموذجاً مقنعاً متصالحاً مع العصر ومستجداته .. وإن كان بعضهم يدعو إلى بناء نموذج ديمقراطي إسلامي ( الشيخ محمد الغزالي مثلاً ) ، إلا أنه لم يبين طبيعة هذا النموذج المطلوب إسلامياً ..
ومهما اجتهد هؤلاء في السياسة ، يبقى النظام الديمقراطي المعاصر هو النموذج المطلوب إسلامياً ، تحتمه الضرورات السياسية العملية المعاصرة ، استناداً إلى مبدأ ( فقه الضرورة ) وهو مبدأ اصيل في الشريعة .. مع التأكيد على أن الديمقراطية هي الوجه الآخر للعلمانية السياسية ، ولن يستقيم النظام الديمقراطي إلا بالعلمانية السياسية نظرية ونظاماً ودستوراً .. فالعلمانية السياسية إنما تعني بالخطوط العريضة :
– الأمة بكل انتماءاتها الدينية والعرقية والسياسية هي مصدر السلطات ..
– المساواة في الحقوق والواجبات بصرف النظر عن أي انتماء ديني أو مذهبي أو عرقي أو سياسي .
– حرية الاعتقاد الديني والسياسي والاعتراف بالآخر .
– الدين لله والوطن للجميع .
وتلك هي أبرز مفردات النظام الديمقراطي .. يستحيل تحقيق أي منها إلا من خلال الدولة العلمانية كمؤسسة محايدة ، لا تفرق بين دين وآخر ، ولا تنحاز إلى دين على حساب الآخر ..
وإن قبل الإسلاميون دعاة دولة الخلافة أخيراً بفكرة الديمقراطية – مع أنها بكل مراجعهم الفكرية بدعة وضلالة وخروج عن الإسلام الدين – فذلك تقية فكرية ولعبة سياسية مكشوفة ، للوصول إلى السلطة بدعم من الأغلبية المسلمة التي تقف مع شعارهم المعروف ( الإسلام هو الحل ) كما يتوهمون ، مع أنهم لم يطرحوا أي مشروع يترجم هذا الشعار سياسياً … وبعد الوصول إلى السلطة عن طريق الديمقراطية يستكملوا سيناريو اللعبة بإعدام الديمقراطية والعلمانية معاً لتنفيذ مشروعهم الإسلاموي على اساس نظرية ( الحاكمية لله ) .. هذا هو السيناريو وفقاً لحساباتهم .. وعندما وصلوا إلى السلطة في مصر بعد ثورة يناير ، أسقطوا نهج التقية بلا حرج تمهيداً لمتابعة السيناريو .. وأعلنوها صراحة على لسان أحد رموزهم : (( انتم يا علمانيين .. ما لكمش مكان في هذا الشعب وعلى هذه الأرض .. اللي يزعل يزعل واللي يكرَه يكرَه .. واللي مش عاجبه فليبحث له عن أرض غير هذه الأرض )) …
هذا عن موقف أنصار دولة الخلافة من نموذج الدولة الديمقراطية العلمانية .. فماذا عن غيرهم ؟
تناول العديد من المفكرين العرب المسألة العلمانية ، ومنهم من أغرق كثيراً بسبر أغوارها كنزعة فلسفية تتناقض مع روح الإسلام ومع موروثنا الثقافي الإسلامي – وهذا شكل آخر من أشكال الترف الفكري – وإن كانت كذلك فتلك مسألة خارج ساحة الإدراك والاهتمام لدى الغالبية الساحقة من أبناء الأمة .. الأهم والأولى بالاهتمام هو الموقف من العلمانية بمفهومها السياسي ( فصل الدين عن السياسة / عن الدولة ) ، وتلك مسألة قد شابها الغموض والتشويه المتعمد بثقافة المواطن العربي .
ومن المفارقات الغريبة بعالمنا العربي ، أن هناك من الدعاة المتحمسين للديمقراطية من يرفض العلمانية بهذا المفهوم .. ويرفض نقيضها أيضاً ، دون أن يقدم لنا أي نموذج سياسي بديل .. ولم يقدم لنا أي نظرية في الديمقراطية تتواءم مع هذا اللا موقف ..
أياً كان الموقف .. فالعلمانية السياسية قد فرضت نفسها في عالم السياسة المعاصر في مجال هندسة وبناء الدولة الديمقراطية المعاصرة ، ولم يعد أمام اي من المجتمعات المعاصرة أي خيار آخر أياً كانت هويته الدينية ، وأياً كان مستوى الإيمان والتدين لدى أفراده ..
وإن كان نموذج الديمقراطية العلمانية في الغرب قد أطلق أبواب الحرية الشخصية بلا حدود ، تحت شعار الاعتراف بالرأي الآخر ، مما سمح للبعض بالإساءة للدين فكراً ، أو بالخروج عن أخلاقيات الدين سلوكاً ، فالحرية بهذا الإطلاق ليست فرضاً ديمقراطياً على كل المجتمعات ، فلكل مجتمع خصوصياته الثقافية والأخلاقية ، هي التي تحدد مستوى الحرية والرأي الآخر المقبول ديمقراطياً وعلمانياً ..
وهنا يحضرني موقف أردوغان من العلمانية .. وهو محسوب على الإسلام السياسي عند الإسلاميين العرب وشيعتهم ، وهو أبعد ما يكون عن إسلامهم السياسي .. موقف جسده عملياً وهو على رأس السلطة في تركيا : (( الأفراد لا يمكن أن يكونوا علمانيين .. الدولة تكون علمانية .. العلمانية تعني التسامح مع المعتقدات كافة من قبل الدولة .. فالدولة يجب أن تقف على مسافة واحدة بين كل الديانات والمعتقدات .. فهل هذا مخالف للإسلام ؟؟ ليس مخالف للإسلام .. ولكن هناك من يحاول أن يؤول ذلك بتأويل آخر .. في السنوات الماضية كنا دائماً نعتبر العلمانية معاداة للدين .. أو العلمانية هي اللادينية .. وهذا خطأ ، العلمانية هي فقط أن تضمن الدولة الحريات للمعتقدات كافة ، وأن تقف على المسافة نفسها حيالها ، وهذا هو مفهوم العلمانية عندنا )) .. وهذا سر شعبية أردوغان في تركيا ، وهذا سر قبوله ديمقراطياً حتى من قبل معارضيه من التيارات السياسية الأخرى .. وهذا سر نجاح أردوغان بإدارة شؤون الدولة والمجتمع في تركيا ..
تلك هي العلمانية التي نتحدث عنها .. فهل هي معادية للدين وهل هي مخالفة للإسلام كما يسأل أردوغان ؟
ولا خوف من العلمانية على الإسلام الدين .. فهي ليست ديناً بديلاً عن أي دين .. وليست دعوة للإلحاد والكفر والعداء للدين كما يدّعي معارضوها جهلاً أو افتراءً وتضليلاً متعمداً .. وليست دعوة للتخلي عما شرع الله في الدين .. ومن كان من معارضيها حريصاً على نفاذ شرع الله في الدين ، فالدولة العلمانية لا تنكر ما شرّع الله للمسلمين ، ولا تنكر ما شرّع الله لغير المسلمين أيضاً ، وهذا اعتراف بما جاء في المرجع الإسلامي الأول : {{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة }} .. أما في السياسة .. فالدين لله والوطن للجميع .. وهذا ما عمل به الرسول الكريم بدولة الإسلام الأولى ..
فالعلمانية الديمقراطية .. لا خيار سواها ، لبناء مشروع حضاري عربي متصالح مع العصر ، يُخرج الأمة من متاهة البحث عن مكان لائق بين الأمم ، مع التأكيد على الهوية الحضارية للأمة بعروبتها وإسلامها .. فالعلمانية والديمقراطية ركنان اساسيان في بناء الدولة المعاصرة .. ولا مكان لأمة من الأمم بأي نموذج آخر ..
ومن لم يدرك هذه الحقيقة من وحي الفكر والمنطق من معارضي العلمانية .. فأمامه الدول الإسلامية التي خرجت من هذه المتاهة منذ أمد بعيد .. وأجمعت على نموذج الدولة العلمانية الديمقراطية ( تركيا ، ماليزيا ، أندونيسيا ، الباكستان ) ، مع احتفاظها بالإسلام ديناً وهوية ..
440 19 دقائق