بينما تفرض الإدارة الأميركية الساحة السورية بشكل متزايد كأحد ميادين الضغط والتنافس مع روسيا، يواصل مسؤولوها الإدلاء بتصريحات استعراضية عن العملية السياسية المجمدة والانتخابات الرئاسية السخيفة التي حدد لها النظام موعداً نهاية أيار/مايو المقبل، ما يعزز التوقعات بأن الحل في سوريا، الذي بشر كثيرون بأنه ربما ينجز خلال هذا العام، عاد ليصبح أبعد مما كان عليه قبل ذلك.
يدرك السوريون منذ وقت طويل أن أي حل في سوريا رهن بدرجة توافق القوى الإقليمية والدولية الكبرى، وفي مقدمتها روسيا وأميركا بطبيعة الحال، وعليه، فقد أدركوا منذ اللحظة الأولى لوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض خطورة تصريحاته وتصعيده السياسي ضد روسيا، لأن الجميع يعرف أن هاتين الدولتين لا تتواجهان بشكل مباشر، بل اعتادتا أن تديرا معاركهما على أراضي الآخرين وبدمائهم.
يعتبر بعضهم أن الاشتباكات الأخيرة التي اندلعت بين قوات قسد وميليشيات النظام في مدينة القامشلي هي أحد وجوه التصعيد الروسي – الأميركي في سوريا، وغالباً هم محقون في هذا الاعتقاد، فكلا الطرفين، قسد والنظام، لا يمكن أن يتصرفا على هذا النحو من تلقاء أنفسهما، ولعل اختيار مدينة القامشلي لإطلاق سباق جديد للتمدد والتوسع شمال شرقي البلاد، يعتبر اختياراً استراتيجياً مدروساً من قبل موسكو وواشنطن، اللتين تدركان جيداً أهمية هذه المنطقة.
لكن المؤلم أن هذه المواجهات تجري بأيد سورية، ويذهب ضحيتها سوريون، أياً كانت الجهة التي يقاتلون فيها، ومن المؤسف أن هؤلاء المقاتلين يعتقدون أنهم يخوضون حربهم، وليست حرب الآخرين بالوكالة.
قد يرى بعض من المعارضة أن هذه المواجهات لا تعني (الثورة) بشيء، وعلى مبدأ (فخار يكسر بعضو) سيجلس هؤلاء للفرجة والمتابعة، لكن ما هم غير واعين له أن هذه المواجهة تكرس إبعاد قوى الثورة والمعارضة أكثر فأكثر عن هذه المنطقة الاستراتيجية جداً، والغنية جداً، والتي لو كان لهذه القوى وجود فيها لاختلف أمرها كثيرا، عسكرياً وسياسياً.
الشيء الوحيد الجيد فيما يجري حتى الآن بين روسيا والولايات المتحدة على الأرض السورية هو أن واشنطن باتت تعتبر كل المناطق الخارجة عن سيطرة النظام (أي عن سيطرة الروس) مناطق مفيدة في المواجهة، ولنقل إن هذا الموقف الأميركي لا ينطلق من أساس مبدأي أو قيمي، بل دافعه استراتيجي براغماتي بحت، لكن بكل الأحوال فإن ما يحدث يعد بمنزلة الفرصة أمام المعارضة للتفكير خارج الصندوق المغلق الذي يتعمد الجميع وضعها فيه.
هذا الصندوق هو مفاوضات اللجنة الدستورية التي لطالما قالت مؤسسات المعارضة المشاركة فيه إنه مجرد فعل ثانوي يهدف لتمرير الوقت بانتظار ما يمكن أن يحدث من تحولات، وها هو التحول المنتظر قد بدأ بالفعل، فهل سيكون هناك مشروع ما أو فكرة خلاقة نستفيد منها؟
والحق أن الائتلاف الوطني بالدرجة الأولى، وبقية مؤسسات المعارضة الرسمية، وكثير من الشخصيات البارزة فيها، روجوا طوال الوقت الماضي لحتمية استسلام السوريين وضرورة أن ينتظروا المتغيرات الدولية أو الإقليمية، وذلك في كل مرة كان يوجه النقد فيها لهذه المؤسسات والشخصيات بحكم مسؤوليتها عن إدارة الملف السوري، بل إن البعض وقف متصدياً لأي نقد مطلقين عليه وصف (جلد الذات)، بينما كانوا في الحقيقة يحاولون إخلاء مسؤوليتهم عن الخسائر الجسيمة التي لحقت بنا من جراء سوء إدارتهم، وأكثر من ذلك، عملوا على نشر اليأس ووأد روح المبادرة في أوساط السوريين تحت هذا العنوان (الأمور خرجت تماماً من يد السوريين)!.
والواقع أن لا أحد يجادل بخروج خيوط القضية من أيدينا، لكن من كان يبادر أو يريد المحاولة إنما كان يسعى إلى إعادة هذه الخيوط لأصابع أصحابها، أو بعض هذه الخيوط على الأقل، لكن كان واضحاً أن هناك رغبة جمعية من قبل المتدخلين في المسألة السورية واللاعبين الرئيسيين فيها بأن يستقيل السوريون من قضيتهم، ودائماً كان المبرر (انتظار المتغيرات).
واليوم فإن مؤسسات المعارضة الرسمية، وكذلك القوى والشخصيات من خارج هذه المؤسسات، مدعوة لاستثمار هذا المنعطف الاستثنائي في العلاقة بين روسيا وأميركا، وإذا كانت الواقعية تقتضي منا القول إن أي تحرك محكوم أيضاً بالعلاقة مع حلفائنا الأقرب وما يتوقعونه أو ينتظرونه من هذا التصعيد، فإن هذه الواقعية لا يجب أن تكون حائلاً دون الواقعية الموازية التي تتطلب التحرك ما أمكننا التحرك، والاستفادة.
باختصار أمام المعارضة فرصة للعب بشكل مريح أكثر من ذي قبل، ومجالاً للمناورة وهامشاً للتحرك لم يكن متاحاً طوال السنوات الأربع الماضية وعليها أن تستغله، أما إذا مرت هذه الفرصة ولم تفعل، فقد لا تجد من يشكك بأي اتهام يوجه لها بعد ذلك.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا