الانتقال في لبنان من سلطة محاصصة فاسدة إلى سلطة قانون ومواطنة، أمر في منتهى الاهمية والخطورة معاً. ليس سهلا وليس فوريا. الاطراف المتضررة من التغيير كثيرة وذات امكانيات كبيرة. كثير من اللبنانيين انخرطوا في النهج الطائفي المذهبي، بفعل الامر الواقع الحياتي؛ فتشكل وعيهم على اسس فئوية ضيقة غير وطنية؛ هؤلاء ضد التغيير، بل هم اداة في أيدي أطراف النظام المراد تغييره.. مئة سنة من عمر النظام الطائفي، تراكمت له فيها خبرات قوية في الالتفاف على الرأي الوطني الحرّ، وعلى أي تحرك شعبي بخلفية وطنية.
واستطاع هذا النظام قمع تحركات شعبية كثيرة، كادت تطيح به، كما نجح في تفكيك الشارع الوطني وقواه السياسية المستقلة، لا بل استوعبها وصهرها في بوتقة التفكير الفئوي الضيق، القائم على الاستفادة الشخصية او الحزبية او الفئوية..
وحينما كان النظام إياه يعجز عن مواجهة الحركة الشعبية الوطنية او استيعابها، كان يلجأ الى القوى الخارجية، مستعينا بها لإنقاذ ذاته. كما حصل حين دخول قوات النظام السوري الى لبنان سنة 1976، وما تلاه من تصفية القيادات الوطنية، وعلى رأسها الشهيد كمال جنبلاط، ثم تجزيء القوى الشعبية واستيعاب قياداتها بشكل او آخر.. ثم تكريس هيمنة القوى الطائفية المذهبية، بديلا عن المشروع الوطني الحرّ.. ترافق ذلك مع تأسيس وتمكين حركات مذهبية جديدة مرتهنة، ومحاربة كل صوت او رأي وطني حر..
وعلى الرغم من ان اتفاق الطائف ينصّ على إلغاء الطائفية السياسية، كمقدمة لتأسيس نظام وطني مقبول، إلا ان اطراف السلطة الفاسدة ذاتها التي صنعت الحرب؛ عادت فتربعت على مؤسسات الدولة، مضيفة اليها عقلية ميليشوية مافيوية، الأمر الذي اوصل البلاد الى انهيار حقيقي بلغ ذروته في السنين الأخيرة.
الانتفاضة الراهنة، اعادت الحركة الشعبية الى الواجهة، واعدة بتأسيس رأي عام وطني غير طائفي وغير مذهبي وغير فئوي ايضا.. رأي عام يواجه قضايا الشعب والوطن كمواطنين وليس كأزلام.. يواجه فساد السلطة لاسترداد حق الدولة وحقوق المواطن منها..
إنها المرة الإولى منذ انتهاء الحرب، التي ينبثق فيها رأي عام وطني، يجمع المتضررين من نهج السلطة الفاسدة وهم غالبية الشعب اللبناني.
وكلما اشتد ضغط الانتفاضة على السلطة، كلما اسفرت السلطة عن مخالبها الفتاكة، ليس اخطرها القمع، بل تحريك المكبّلين بالمذهبية عقليا ونفسيا، للإلتفاف على المشهد الوطني الجامع، الذي يطفو في سماء الانتفاضة.. مضافا الى اجتراح اسماء جديدة من جعبتها، المليئة بالنخب والاسماء ذات البريق.
امام هذا الواقع، من الطبيعي ان يخاف البعض من المنتفضين، وان ينكفىء بعض آخر مدفوعا بيأسه من التغيير، او متقوقعا في شرنقته المذهبية التي غالبته فغلبته.
التحدي الأهم، أن تبقى شعلة الانتفاضة متوقدة، وأن تتولى نخبة فيها طليعية واعية متجاوزة للعقلية الطائفية والمذهبية، إعادة بلورتها بشكل أنصع، بعد أن تنفض غبار الشوائب التي علقت بها رغما عنها.
استمرار الانتفاضة بطليعة واعية منصهرة، كفيل بإعادة الحيوية اليها، كما الى ابناء الوطن المتضررين من سلطة القمع والفساد والارتهان.
لا بديل عن ترشيد وضبط وتصعيد الانتفاضة، الى حين إنقاذ الوطن والشعب من براثن السلطة المفترسة..
المصدر: المدار نت