لا تتوقف دلالات القمة الدولية للمناخ التي دعا إليها الرئيس الأميركي جو بايدن، على تأكيد التزام الإدارة الجديدة في واشنطن بالتعددية الدولية والتزاماتها السابقة حول المناخ، بل تتعدى ذلك إلى سعي الولايات المتحدة لضمان استمرار تفوقها ونفوذها السياسي والاقتصادي، وليس فقط تعافيه بعد جائحة كورونا، والحد من النفوذ الصيني، والعودة إلى ترسيخ موقعها الدولي، بعد تراجعه خلال أربع سنوات من حكم دونالد ترامب، خصوصاً أن ملف المناخ باتت ترتبط به الكثير من الملفات الأخرى، بما فيها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
ويفتتح بايدن قمة أميركية دولية حول المناخ، عن بُعد بسبب جائحة كورونا، اليوم الخميس، تستمر ليومين، بمشاركة قادة أربعين دولة، أبرزها الصين وروسيا، مع تأكيد الرئيسين شي جين بينغ وفلاديمير بوتين مشاركتهما. وأرادت إدارة بايدن أن يتزامن عقد القمة مع إحياء اليوم العالمي للأرض، وقبل اجتماع قمة المناخ، برعاية الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل في غلاسكو. ولا ترمز القمة الأميركية إلى عودة الولايات المتحدة لالتزاماتها السابقة حول المناخ فحسب، بما فيها انضمامها مجدداً إلى معاهدة باريس للمناخ، بل كذلك لقيادتها تلك الجهود وخفض سرعة التوسع الصيني.
وبحسب البيت الأبيض، فإن 17 دولة من المدعوة هي من الدول ذات الاقتصادات الكبرى، والمسؤولة عن 80 في المائة من الانبعاثات العالمية والناتج المحلي الإجمالي العالمي. كما سيضم الاجتماع دولاً أخرى، لها ابتكارات ودور ريادي في مجال مكافحة التغير المناخي وخطط اقتصادية مبتكرة للوصول إلى اقتصادات تعتمد على صفر انبعاثات، ومجموعة أخرى من الدول المعرضة إلى حد كبير للتبعات السلبية للتغير المناخي، كدول الجزر الصغيرة وغيرها، وأخرى حليفة للولايات المتحدة. وسيشارك في النقاشات الجانبية للقمة كذلك عدد من منظمات المجتمع المدني وممثلون عن شركات القطاع الخاص.
وتضع إدارة بايدن عدداً من الأهداف نصب أعينها لمناقشتها على مستويات عدة في القمة، من بينها تنسيق الجهود للعمل على عدم تجاوز ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة مئوية، وهو الحد الأقصى الذي حدده العلماء من أجل درء أسوأ آثار تغيير مناخي. ويبدو أن العالم يقترب من هذا الحد، إذ أشار تقرير، صادر هذا الأسبوع، عن المنظمة العالمية للأرصاد الجوية حول “حالة المناخ العالمي” إلى أن متوسط درجة حرارة الكوكب ارتفع بنسبة 1.2 في المائة العام الماضي، ما يُقرب العالم من درجة 1.5 في المائة التي وصفها العلماء بالخطيرة. وحذر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، من النتائج التي يخلص إليها التقرير فيما يخص المناخ، واصفاً العالم بأنه “على حافة الهاوية”، مؤكداً ضرورة أن يتحرك قادة الدول سريعاً، والعمل على أن يكون هذا العام عاماً للتحرك بشكل حاسم ومواجهة التغير المناخي.
لكن القمة ستركز كذلك على القضايا الاقتصادية وملايين الوظائف الجديدة التي يمكن خلقها، وستلعب التقنيات المبتكرة دوراً مهماً في هذا الأمر. كما العمل على الانتقال إلى اقتصادات تعتمد أكثر على مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة. وهنا لا يمكن إغفال التنافس الشديد بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب دول صناعية أخرى في الاتحاد الأوروبي وغيره. لكن المنافسة الكبرى تبقى بين أكبر اقتصادين عالميين، والسباق مع الزمن حول أي من البلدين قادر على إحراز تقدم، لا يضمن ريادة شركاته في الأسواق الدولية ولأجيال مقبلة فحسب، بل تفوقه في الصناعات المبتكرة. كما ستناقش “تخصيص الميزانيات وتمويل القطاعين العام والخاص، من أجل دفع التحول لصافي الانبعاثات الصفري، والعمل على مساعدة البلدان النامية والفقيرة للتكيف مع تأثيرات التغير المناخي”.
وتتخذ إدارة بايدن توجهاً براغماتياً في إدارتها لعلاقاتها مع الصين وروسيا فيما يخص المناخ. فعلى الرغم من انتقاداتها لهما وخلافاتها الشديدة مع البلدين حول الكثير من الملفات الدولية، لكنها تحاول التعاون وتوثيق العلاقات في المجالات الأخرى التي من مصلحة الولايات المتحدة، كما الدول الأخرى، التعاون فيها. وعقد القمة تحت مظلة أميركية، قبل قمة المناخ المقبلة في غلاسكو، تحت مظلة الأمم المتحدة، يظهر عزم الإدارة الأميركية على ضرورة الضغط على الصين وكبح تقدمها، فلا يمكن لأي من الدول الصناعية الاستغناء عن خدماتها في صناعاتهم ومنتجاتهم في ظل نظام العولمة. وفي هذا السياق يأتي كذلك البيان المشترك الذي وقّعه مسؤول ملف المناخ في الإدارة الأميركية، جون كيري، مع نظيره الصيني شي شينهوا، في شنغهاي أخيراً، والذي تعهد من خلاله الطرفان بالتعاون فيما يخص محاربة التغير المناخي.
التحركات الأميركية، ومعها دول غربية أخرى، على صعيد المناخ، تشمل خلق نظام يفرض أخذ المشاريع والقروض والتكنولوجيا الخضراء والاستثمارات والضرائب وأمور أخرى بعين الاعتبار إذا أراد العالم بالفعل مواجهة تحديات التغير المناخي. ويدرك بايدن أن عليه التحرك بسرعة وذكاء، وبشكل تكون فيه أهدافه واضحة وقابلة للتحقيق على المدى القصير، في الوقت الذي يضع فيه سياسات تضمن تمكن بلاده من الاستمرار والمنافسة على المدى البعيد.
وعلى الرغم من جهود بايدن لإعادة بلاده إلى قيادة الجهود الدولية على أكثر من صعيد، إلا أن شبح الترامبية يقف له بالمرصاد، ويهدد بنسف أي تقدّم سيحرزه خلال السنوات الأربع المقبلة، إذا عاد بعد أربع سنوات إلى البيت الأبيض، ترامب مجدداً أو مرشح آخر عن الحزب الجمهوري، الذي تهيمن عليه أيديولوجية ترامب التي تنكر حتى وجود تغير مناخي. وهنا على بايدن أن يعمل جاهداً لإعادة الثقة للمجتمع الدولي بأن كل الجهود الحالية لن تمحوها جرة قلم من إدارة جديدة بعد أربع سنوات. كما أن بايدن يواجه تحدياً آخر لا يقل أهمية، وهو المحلي على صعيد الكونغرس، إذ تأتي جهوده وسط محاولاته لتأمين المليارات من الكونغرس لإصلاح البنية التحتية المهترئة. فمن دون إصلاحها لن يكون من السهل كذلك التعافي من تبعات وباء كورونا، وخلق فرص عمل جديدة وسد الفروقات الطبقية التي تزيد من التوترات في البلد. فمن أجل النهوض بأميركا والاعتماد على اقتصاد أخضر، وتحقيق أهداف مكافحة التغير المناخي، يحتاج الأمر كذلك إلى تحولات إضافية، وجهود جدية لخفض الانبعاثات، وتغيير سلوك الشركات الأميركية، كما سلوك المستهلكين.
المصدر: العربي الجديد