لم يمضِ سوى ثلاثة أشهر على اشتباكات دامية وقعت بين قوى الأمن الداخلي التابعة لـ”الإدارة الذاتية” الكردية في الشمال الشرقي من سورية، وبين ميلشيات تتبع للنظام السوري، حتى تفجرت هذه الاشتباكات مجدداً في مدينة القامشلي التابعة إدارياً لمحافظة الحسكة، في مؤشر واضح على احتقان يشوب العلاقة المضطربة بين الطرفين في المنطقة الأكثر غنى وأهمية على امتداد الجغرافيا السورية.
وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أن اشتباكات متقطعة تجددت أمس الأربعاء، في أحياء في القامشلي، غداة أخرى مماثلة، كانت اندلعت بين قوى الأمن الداخلي التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، والمعروفة بـ”الأسايش”، وبين مليشيا “الدفاع الوطني” التي تضم مسلحين موالين للنظام، والمعروفين في سورية بـ”الشبيحة”، وتتلقى دعماً من الجانب الروسي. وقتل مساء أول من أمس الثلاثاء مسؤول أمن الحواجز العامل في “الأسايش”، خالد حجي، إثر هجوم شنّه عناصر من “الدفاع الوطني”، على حاجز عسكري بالقرب من دوار الوحدة، القريب من حي طيّ، ذي الغالبية العربية من السكّان الموالين للنظام. ويقع بالقرب من هذا الحي المربع الأمني الذي تُسيطر عليه قوات النظام جنوبي مدينة القامشلي، ويضم أفرع أجهزة أمنية، ودوائر تابعة لحكومة النظام.
وأشارت مصادر محلية إلى أنّ قوات “الأسايش” استقدمت تعزيزات إلى المنطقة عقب الهجوم، ما أدى إلى اتساع نطاق الاشتباكات بين الطرفين إلى حي حكو، وبعض الأحياء الأخرى القريبة من مطار القامشلي الذي تُسيطر على جانب كبير منه القوات الروسية. وأكدت المصادر لـ”العربي الجديد”، أن 8 على الأقل من عناصر “الدفاع الوطني” قتلوا وأصيب أكثر من 20 منهم بعضهم بحال حرجة، بعد اقتحام قوى “الأسايش” لحي طي، وسيطرتها على الحاجز الرئيسي لـ”الدفاع الوطني” فيه، مشيرة إلى أن الطرفين استخدما أسلحة متوسطة في الصراع.
وحمّل المركز الإعلامي لقوى “الأسايش” ذات الطابع الكردي، “الدفاع الوطني”، مسؤولية تطورات ليل الثلاثاء – الأربعاء، مشيراً في بيان إلى أن “الدفاع الوطني يسعى لضرب حالة الاستقرار والأمن في مدينة القامشلي”، موضحاً أن أحد عناصر “الدفاع الوطني” أطلق النار على حاجز لـ”الاسايش” عند دوار الوحدة والمحاذي لحي طي في القامشلي، ما أدى إلى مقتل أحد عناصره. واتهم عضو الهيئة الرئاسية في حزب “الاتحاد الديمقراطي” الكردي، صالح مسلم، كلّاً من روسيا والنظام، بالتلاعب والعمل على ضرب الاستقرار في محافظة الحسكة، وبثّ الفوضى وترهيب الأهالي. وأضاف مسلم في تصريحات صحافية: “لقد بات الأمر معروفاً؛ ستفتعلان المشاكل، ثم تتدخل روسيا. هذا الأمر يتم بشكل متعمد، وهو تصرف لا أخلاقي”. ودخل الروس على الفور على خطّ المصالحة بين الطرفين، وفق مصادر مطلعة، أوضحت لـ”العربي الجديد” أن “الأسايش” تطالب بتسليم قتلة أحد عناصرها، وهو أحد متزعمي مجموعات “الدفاع الوطني”، في حي طي.
وتعليقاً على تجدد الاشتباكات ذلك، رأى الباحث السياسي المقرب من “الإدارة الذاتية” الكردية في الشمال الشرقي من سورية، إبراهيم مسلم، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن نطاق التوتر بين “الأسايش” ومليشيات الدفاع الوطني “لن يتسع ليشمل أماكن أخرى”، مشيراً إلى أنه “على الأغلب سينتهي بهدنة جديدة”. وتحدث مسلم عن سقوط عدد كبير من القتلى والجرحى، وحركة نزوح للأهالي من منطقة الاشتباكات في القامشلي، معرباً عن قناعته بأن الجانب الروسي “قادر على حلّ هذا الخلاف الدموي، لأنه من يدعم النظام ومليشياته في المحافظة”. ورأى أن صيغة الحلّ هذه المرة “ربما ستكون مختلفة عن سابقاتها، من خلال تقويض نفوذ ميلشيا الدفاع الوطني التابعة للنظام في مدينة القامشلي”.
وكان الجانبان قد دخلا في نزاع مسلح في يناير/ كانون الثاني الماضي في مدينتي القامشلي والحسكة، لم يتوقف إلا بعد تدخل الجانب الروسي الذي يتخذ من مطار القامشلي قاعدة لقواته. وتسيطر القوى الكردية على جلّ محافظة الحسكة باستثناء مربعين أمنيين للنظام في مدينتي القامشلي والحسكة وبعض القرى، إضافة إلى مطار القامشلي، وفوجين عسكريين هما: “الفوج 123″ (فوج كوكب) قرب الحسكة، و”الفوج 154” (فوج طرطب) قرب مدينة القامشلي. كذلك تنتشر قوات النظام في مناطق عدة على الشريط الحدودي مع الجانب التركي، وفق اتفاق تركي ـ روسي أبرم أواخر عام 2019 إبان العملية العسكرية التركية في منطقة شرقي نهر الفرات.
ولم يسبق أن تدخل هذان الفوجان في الاشتباكات بشكل مباشر إلى جانب مليشيا “الدفاع الوطني”، ما يؤكد حرص النظام على “الشعرة” التي لا تزال تربطه مع الجانب الكردي، وبسبب عدم قدرته على حسم الصراع لصالحه، حيث لا يملك الإمكانيات لمواجهة قوات “الأسايش” و”قوات سورية الديمقراطية” (قسد) التي تشكل الوحدات الكردية ثقلها الرئيسي لجهتي القيادة والتوجيه. وتعد محافظة الحسكة التي تضم كل أطراف الصراع، من أهم المحافظات السورية، كونها تضم ثروة هائلة من النفط والغاز، فضلاً عن الثروة الزراعية، حيث كانت المحافظة من أكبر السلال الغذائية في البلاد قبل العام 2011. كما تعد الحسكة من المحافظات السورية المتميزة بتنوعها السكاني، إذ تعتبر بمثابة “سورية مصغرة”، فالعرب يشكلون غالبية سكّانها، ولكنها تضم العدد الأكبر من السوريين الأكراد، والسوريين السريان، إضافة إلى وجود أرمني محدود. وينتشر في عموم المحافظة قوات أميركية حول منابع النفط والغاز في منطقة رميلان في ريف المحافظة الشرقي، بينما ينتشر الروس في نقاط تمركز عدة، أبرزها مطار القامشلي. ويسيطر الجانب التركي على جانب من ريف الحسكة الشمالي الغربي حيث بلدة رأس العين وريفها.
ورأى الكاتب والصحافي شفان إبراهيم، في حديث مع “العربي الجديد”، أنه “لا يمكن أن تكون الاشتباكات مرتبطة بمحاولة تمدد للنفوذ لطرف على حساب طرف آخر”، معتبراً أن “المعادلة أعقد من ذلك، وليست منفصلة عن الإطار السوري العام، الذي لم يشهد تغيراً في موازين القوة ونقاط الانتشار العسكري والأمني منذ قرابة العام.
وبيّن إبراهيم، المقيم في مدينة القامشلي، أن “حي طي موالي بغالبيته للحكومة السورية”، مضيفاً أن “أي تغيير في قواعد السيطرة سيخلق إرباكاً وخلافات على الصعد كافة”. ورأى أن “الأفضل هو الركون إلى الحوار والهدوء وعدم المساس بالسلم الأهلي، الذي لا ينفصل أبداً عن قضية السيطرة الأمنية على أحياء لها وضع ذهني خاص. غالبية أهالي حي طي والقرى المحيطة والبعيدة، يستخدمون حاجز دوار الوحدة للدخول إلى مركز المدينة”.
المصدر: العربي الجديد