رغم العقوبات المتبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا، كان ثمة حرص بين الجانبين على إبداء الرغبة في التعاون وعلى الحاجة إلى قمة بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين، وتالياً لم تُقطع كل خيوط الأمل في إمكان حصول إنفراج ما في المرحلة المقبلة.
الآن، بعث كل جانب بالرسائل التي يريد أن يبعثها. بايدن يمكنه أن يقول أمام الكونغرس بعد أيام، أنه أسمع بوتين، ما كان يفترض أن يسمعه منذ سرت الأنباء عن “تدخل روسي” في الانتخابات الرئاسية عام 2016. كانت الغاية الرئيسية لبايدن أن يقول، أنا لست دونالد ترامب، ولست متأثراً بـ”سحر” الرئيس الروسي ولا بمزاياه القيادية.
وبعد النبرة العالية والعقوبات الديبلوماسية والمالية الواسعة النطاق والتي قوبلت بتضامن أوروبي ومن بريطانيا وكندا وأستراليا، قال بايدن إنه “حان وقت خفض التصعيد”، وإنه مستعد للمضي في عقد القمة التي اقترح عقدها مع بوتين في “دولة ثالثة” في الأشهر المقبلة، وذلك من أجل البحث في العلاقات الثنائية والقضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك.
ولم يكن في وسع بوتين تقبل العقوبات الأميركية الجديدة من دون رد فعل. وهكذا كان، لكنه حرص على تقويم “إيجابي” لمسألة عقد القمة والكلام عن خفض التصعيد.
وبعدما وصلت العلاقات الاميركية – الروسية إلى مستويات غير مسبوقة منذ انتهاء الحرب الباردة قبل 30 عاماً، لم يعد في الإمكان الذهاب أبعد في التصعيد، لأنه في مرحلة ما لا يعود من الممكن ترميم العلاقات، وستترك في الوقت نفسه مضاعفات على البلدين المعنيين وعلى البؤر الدولية الساخنة. وآخر جولة من النزاع الأوكراني، هي نتيجة فعلية للتجاذب الحاد القائم بين واشنطن وموسكو.
وفي عالم يواجه الكثير من التحديات، من الإرهاب إلى أزمة المناخ والوباء والنزاعات الأهلية والحدودية والحروب التجارية وتفاقم النزعات العرقية، فإن مسؤولية الدول الكبرى، أن تبحث في ما بينها عن أوجه التعاون والتعاضد كي تسهل إيجاد الحلول لهذه المشاكل، التي لا تشكل تحدياً لدولة بعينها وإنما تهدد العالم قاطبة.
لكن المشكلة تكمن في أن زعماء الدول يبنون أحياناً سياساتهم الخارجية بناء على الحسابات الداخلية. وعندما يكون بايدن مثلاً واقعاً تحت ضغط القاعدة المحافظة في الحزب الديموقراطي ومن الحزب الجمهوري، الذين يطالبون بسلوك أكثر تشدداً مع روسيا والصين، لا يعود بوسع الرئيس انتهاج سياسة خارجية أكثر واقعية، ويجد نفسه مضطراً إلى انتهاج نهج أكثر تشدداً.
ولطالما كانت السياسة الخارجية في الولايات المتحدة خاضعة للحسابات الداخلية. فبايدن ليس وحده من يسلك هذا المسلك، من قبله فعلها ترامب ورؤساء آخرون بنوا مواقفهم حيال القضايا الدولية، إنطلاقاً من حسابات داخلية.
ومثلما هناك وقت للتصعيد، هناك وقت للواقعية التي هي بداية الطريق إلى التسويات التي تفضي بدورها إلى حلول وسط. ومهما قيل عن التمسك بالمبادئ، فإن من مقتضيات السياسة تقديم التنازلات في الوقت المناسب وتدوير الزوايا، حتى لا تذهب الأمور إلى مزيد من التعقيد.
وحتى في ذروة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق، كانت تتخللها فترات انفراج، وعقد قمم بين الرؤساء الأميركيين والزعماء السوفيات، ومن ثم يصار إلى إبرام معاهدات للحد من الأسلحة النووية.
وبعد إنتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، وبروز روسيا وريثة له، ساد الانفراج وتعددت القمم الأميركية – الروسية، وأبرمت اتفاقات مهمة بين الجانبين تناولت تجديد اتفاقات نووية وإبرام أخرى جديدة، وبقيت روسيا العضو الثامن في مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى.
إلا أن تضارب المصالح ما لبث أن تجدد عندما شعرت روسيا، بأن الغرب يزحف نحو حدودها ولا يريد لها أن تكون دولة تتمتع بالمكانة ذاتها التي كان عليها الاتحاد السوفياتي. وفي الجهة المقابلة، ساد شعور بأن بوتين يكنّ عداء إيديولوجياً للغرب وقيمه، من خلال إصراره على الحفاظ على هيبة روسيا وموقعها في أوروبا والعالم.
وشكل ذلك بداية العودة إلى التجاذبات القديمة وما تلاها من صراع متجدد على النفوذ. وهذا ما تسبب بتدهور متمادٍ في العلاقات في الأعوام الأخيرة.
ورغم ذلك، فإن القمة الأميركية-الروسية، تبقى نافذة أمل بسلوك درب أكثر واقعية، قد يشكل بداية مخرج للنزول عن السقوف العالية للجميع ولمصلحة الجميع.
المصدر: النهار العربي