“النكاية” أو “النكد” أو “الاستفزاز” من طبيعة البشر، كلها من أنواع الدفاع عن النفس في كل المجالات. لكنها ليست دائماً إيجابية على صاحبها، بل قد تعود عليه بالضرر، وربما يتضرر منها طرفا العملية معاً. إذ يقال في العامية، “نكاية بجاري بحرق شروالي”، بما يعني أنني قد ألحق ضرراً بنفسي طالما أن الأمر سيتسبب ضرراً لآخر أعاديه.
فعل ورد فعل… وفعل
في قصة تاريخية متداولة، أنه حوالى سنة 870، حين وصل الغزاة الفايكينغ إلى أحد الأديرة في اسكتلندا، طلبت الراهبة القديسة (آبي الصغرى) من الراهبات الأخريات أن يشوهن مظهرهن، لأن ذلك سيمنع الغزاة من اغتصابهن، ثم حملت سكيناً وعمدت إلى قطع أنفها وشفتها، وحذت حذوها سائر الراهبات. وكان هذا الأمر يتكرر في كل الأديرة التي يجتاحها الفايكينغ.
نجحت “نكاية” الراهبات، حيث امتنع الفايكينغ عن اغتصابهن، لكنهم أحرقوا الدير وأحرقوا معه الراهبات وهن على قيد الحياة.
في عالم السياسة لطالما كان يُنظر إلى الاستفزاز، على أنه محاولة مباشرة لإثارة بعض الاستجابة الفورية من الطرف الآخر، كتحريك عملاء لتحويل حشد ما إلى العنف من أجل تبرير حملة أمنية قاسية. ويمكن أن يكون عبارة عن أعمال عنف صغيرة تهدف إلى إثارة رد عسكري من قبل الخصم من أجل تبرير عمل مضاد أكبر من قبل المحرض.
إذاً النكاية السياسية في مصطلح أخلاقي معنوي بالدرجة الأولى، هي تدل على قيام طرف بأمر مستفز من أجل دفع خصمه للرد عليه بغضب أو بلا تروٍ، ليوقعه في الفخ الذي نصبه له.
أمثلة من الواقع السياسي
في أمثلة وقعت قبل أسبوع، اتهمت وزيرة الدفاع الألمانية أنيغريت كرامب كارنباور، روسيا بـ”الاستفزاز” في حشدها قوات على الحدود مع أوكرانيا. وقالت “انطباعي هو أن الجانب الروسي يحاول بكل الطرق إثارة رد فعل”.
في مثل آخر، وصف وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، إعلان إيران عزمها على الشروع في تخصيب اليورانيوم حتى 60 في المئة في موقع نطنز بأنه “استفزاز”، قائلاً إن هذه الخطوة تثير تساؤلات حيال جدية طهران في المحادثات النووية في فيينا.
هناك مئات الأمثلة على ما يمكن اعتباره نكداً سياسياً دولياً يدخل في مجال الاستفزاز ونتائجه. فتطوير كوريا الشمالية ترسانتها من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، لا يزال يشكل استفزازاً للولايات المتحدة. ويعتبر بعض المحللين أن هناك تضخيماً كبيراً لقدرات كوريا الشمالية من قبل الولايات المتحدة، يهدف إلى تثبيت علاقتها مع كوريا الجنوبية، وإبقاء باب التوازن الاستراتيجي قائماً مع الصين. فالاستفزاز يمكن اختراعه لتترتب عليه نتائج لصالح أحد أطرافه. لذا ليست هناك حدود لتفسير مصطلحات “النكد” و”الاستفزاز” و”الابتزاز”. فإذا أطلقت بيونغ يانغ صاروخاً ووضعت قمراً صناعياً في مداره، فسيكون ذلك استفزازاً لأن سيول ستعتبره اختباراً لصاروخ قصير المدى مضاد للسفن. وإذا أطلق جنود كوريون شماليون بضعة رشقات عبر الحدود، سيكون ذلك استفزازاً وكأنه إيذاناً بانطلاق الحرب، لكن قد يعتبره الطرف الآخر مجرد رسالة تتعلق بموضوع آخر بعيد عن الحدود. إذاً لا حدود معينة لما قد يعنيه “الاستفزاز” أو “النكاية”، فهو فعل “مطاطي”، يمكن لكل طرف أن يفسره على هواه وبحسب حاجاته وأهدافه السياسية.
شوكة النكاية
لكن على الرغم من كل التوترات على الساحة الدولية بين دول بعينها، تتناقض مصالحها في الأقاليم المختلفة، إلا أنه ما زالت هناك أخلاقيات دبلوماسية متأصلة في استخدام النكاية منعاً للانزلاق إلى افتراضات خاطئة قد تؤدي إلى ما لا تحمد عقباه. إلا أن “النكد السياسي” يقوم غالباً على اعتقاد جازم بأن كل ما يفعلونه “هم” هو خطأ غير مبرر، وأن كل ما نفعله “نحن” هو حق ومبرر. على سبيل المثال الجماعات الإرهابية التي تعتمد المصطلحات الداعمة لنهجها القتالي، ومن بينها مصطلحا “شوكة النكاية”، و”شوكة التمكين”.
لكن من عيوب تصنيف كل إجراء يقوم به العدو على أنه “استفزاز”، أنه يترك أصحاب القرار مضللين بسبب اعتبارهم “النكاية” مجرد رغبة في توليد استجابة سياسية فورية أكثر من كونه جزءاً من خطة استراتيجية أوسع وأبعد. وهكذا يصبح السلوك الاستفزازي “وسيلة” و”غاية” وإلى أجل غير مسمى. أي يتحول العنوان الاستفزازي إلى فخ يسقط فيه صاحبه. فمثلاً تخصيب اليورانيوم في إيران حولته بروباغندا النظام إلى “قضية وطنية قومية” بعدما كان “نكاية سياسية” لفترة طويلة، وفي هذه الحالة يصبح موضوع النكاية أكبر من صاحبه. الأمر نفسه في القضية الفلسطينية التي تحولت “المقاومة فيها إلى عنوان أكبر من حامليه”، فلا هم قادرون على الدفاع عنه ولا على التخلي عنه. وكأن القضية التي كانت مفتاحاً للتفاوض وتحقيق مكاسب صارت تشكل عبئاً. وهناك مئات الأمثلة على القضية التي تبدأ كـ”استفزاز” أو “نكاية” أو عملية “نكد” سياسي وتتحول إلى فخ.
الفرع يصبح الأصل
و”النكاية السياسية” التي تنقلب على أفرقائها، الصادرة عنهم والموجهة لهم، تصبح قضية بذاتها، فيُنتسى الموضوع الأساسي الذي صُنعت لأجله، لتضحي هي الموضوع. هذا ما ينطبق على علاقة الاتحاد الأوروبي بروسيا مثلاً وتحديداً في أوكرانيا والبلقان، والولايات المتحدة بالصين في ما يجري في بحر الصين والمحيط الهادئ. وينطبق على علاقة إيران بالخليج العربي في عمليات “الشد والمد” وأحياناً “كسر العظم”، في اليمن والعراق وسوريا ولبنان. وعلاقة إسرائيل بالدول المجاورة، التي لطالما أشعلت “النكاية السياسية” نار الحروب القاسية في ما بينها، وحرب يوليو (تموز) 2006 مثالاً ساطعاً. والنكاية تشمل تقريباً كل دولتين لم ترسما حدودهما بشكل نهائي، كدول العالم الثالث التي رسم خرائطها الاستعمار أو الانتداب، وترك خلافات حدودية في ما بينها لم تزل عالقة حتى اليوم من دون حلول، ما يفتح الباب واسعاً أمام الاستفزازات الكلامية أو المناوشات السياسية والدبلوماسية وربما المادية.
“مكيافيللية النكاية”
عالم السياسة الإيطالي ميكيافيللي في كتابه الأمير يقول، “الأمير العاقل ينبغي له، حين تؤاتيه الفرصة، أن يثير العداوة بدهاء حتى يزيد بقمعها من عظمة نفسه”.
في دول العالم العربي تطبق هذه المقولة بحذافيرها، فحتى لو أن الانتخابات النيابية أجريت بكل ديمقراطية، فإن نتائجها لا تفضي إلا إلى وصول أفرقاء سياسيين متخاصمين إلى السلطة، وهذا ما يصعب تشكل الحكومات، ويؤدي إلى تبادل النكايات السياسية والاتهامات بالعرقلة وبالعمالة للخارج، ويشترط كل فريق الحصول على مطالبات يستحيل على الفريق الآخر القبول بها، فتتوقف الحياة السياسية وتطول النكاية إلى ما لا نهاية، وهذا ما يجري في لبنان والعراق وتونس وليبيا والسودان. ففي هذه الدول تتناحر الفرق السياسية من أجل السيطرة لا التوافق، ولدفع الآخر بالقبول بما يفرضه الفريق القوي سواء بالسلاح أو بالمال أو بمجرد الانقلاب على نتائج الانتخابات. فتصبح البيئة السياسية الناتجة من انتخابات خصبة للنكايات السياسية، التي تتحول بدورها إلى “نواة العمل السياسي” أو غايته، لا وسيلته.
في الولايات المتحدة تبرز النكايات السياسية عند كل مفصل انتخابي وتحديداً في الانتخابات الرئاسية، التي تصبح فيها الإشاعات سلاحاً فتاكاً، والإشاعات تستولد النكايات والنكد السياسي، والانتخابات الأخيرة بين الرئيس الأسبق دونالد ترمب والحالي جو بايدن وصلت في درجة استفزازها الناخبين إلى القمة.
والاتهامات المتبادلة قد لا تكون صحيحة حتى لو كانت الغاية منها نبيلة، فكما قال ونستون تشرشل “في زمن الحرب يصبح الصدق شيئاً ثميناً، لا بد أن يُحاط بسياج من الأكاذيب”. والأكاذيب أو الاستفزازات أو النكاية السياسية بين المرشحين هدفه كسب أصوات الناخبين.
من أمثلة النكايات، إدراج إدارة ترمب قبل أسبوعين من انتهاء ولايته جماعة “أنصار الله” الحوثية على قائمة الإرهاب. لتقوم إدارة بايدن بإزالتها من اللائحة مباشرة بعد انتخابه رئيساً، بطريقة وصفت بالنكاية السياسية.
المثال الثاني، ما تسرب من المراسلات الإلكترونية للسفير البريطاني الأسبق في واشنطن، التي أظهرت أن الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترمب انسحب من الصفقة النووية الإيرانية نكاية بالرئيس باراك أوباما. أو قيام ترمب وزوجته ميلانيا بتأسيس موقع جديد للتواصل الاجتماعي “نكاية” بـ”فيسبوك” و”تويتر” اللذين حظرا الرئيس ومنعاه من نشر رسائله بعد غزو الكونغرس من قبل مناصريه.
المصدر: اندبندنت عربية