اكتسب الإعلان عن قرب تأسيس جسم سياسي سوري جديد في شهر آذار (مارس) الماضي زخماً استثنائياً، وذلك لسببين اثنين، أولها أن الإعلان الذي تداولته وسائل الإعلام تحدّث عن مؤتمر تأسيسي علني في دمشق، في يوم محدد هو السابع والعشرون من آذار، يحضره ممثلون عن قوى سياسية معارضة أبرزها هيئة التنسيق، الحاضرة في الهيئة العليا للمفاوضات إلى جانب الائتلاف وغيرهما من منصات المعارضة الأخرى، والتي تقول بضرورة رحيل النظام تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الدولي 2254. أما السبب الثاني فهو أن الإعلان جاء مترافقاً مع تدهور اقتصادي متسارع يبدو النظام عاجزاً عن تداركه، ومع ما بدا حراكاً سياسياً يشي بأن ثمة تغييرات مقبلة في معطيات المعادلة السورية المستحيلة الحلّ، إذ كان قد سبق ذلك ضجة حول تأسيس مجلس عسكري انتقالي سوري، وجولة روسية على دول الخليج العربي تزامنت مع ظهور رياض حجاب على الساحة مجدداً بعد طول غياب.
وقد دفع اجتماع هذه الظروف إلى شيوع اعتقاد بأن مشروع الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) ما كان ليتم الإعلان عنه بهذه الطريقة لولا مؤشرات على تحولات جدية وشيكة في الملف السوري، ولولا أن هناك معطيات لدى هيئة التنسيق وحلفائها تقول إن الفرصة باتت مواتية لخلق جسم معارض جديد، يكون هو الشريك في الحلّ السياسي المرتقب، ويكتسب شرعيته من وجوده في دمشق، الأمر الذي لا يمكن أن يحدث دون غطاء أو موافقة ضمنية من الجانب الروسي، خاصة أن الرؤية السياسية للجنة التحضيرية للجبهة تتحدث عن «إنهاء نظام الاستبداد القائم بكل رموزه ومرتكزاته» وعن «التغيير الجذري للنظام القائم، والتحول الديمقراطي الشامل». لكن سرعان ما تجاوزت الأحداث كل هذا خلال أيام قليلة، إذ مَنَعَ النظام انعقاد المؤتمر بذريعة عدم حصوله على ترخيص، ولم تكن هناك مؤشرات تقول إن السفارة الروسية في دمشق كانت تنوي حتى تلبية الدعوة لحضوره، فيما تراجعت عن المشهد الأحاديث والتكهّنات عن قرب حدوث تحولات مهمة في الملف السوري، وعادت لتختفي وراء مشاهد تفاقم الأزمة الاقتصادية الخانقة في البلد، ووراء الدعم الروسي المستمر للأسد في كل المناسبات والاجتماعات والمحافل الدولية.
لكن القائمين على مشروع جود لا يزالون يقولون في أحاديثهم لوسائل الإعلام إنهم سيعقدون مؤتمرهم من دمشق، مرجِّحين أن يكون ذلك في شهر نيسان (إبريل) الجاري، كما يؤكدون أنهم لن يطلبوا إذناً أو ترخيصاً من النظام أو من غيره. وصحيح أن التوقيت الذي تم فيه الإعلان عن المؤتمر يشي بأن وراءه دوافع متعلقة بالظرف السياسي والاقتصادي الراهن، إلا أن الصحيح أيضاً أن المشروع في حد ذاته لم يكن استجابة سريعة لحدث طارئ، ذلك أنه مطروح منذ زمن بعيد، حتى أن صفحة الجبهة على فيسبوك موجودة منذ تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وكانت قد أعلنت عن رؤيتها السياسية منذ مطلع كانون الأول (ديسمبر) 2020، وأصدرت بيانات رسمية في مناسبات عديدة. وهو ما يؤكده بسام سفر، عضو المكتب السياسي لحزب العمل الشيوعي (أحد مكونات جود وهيئة التنسيق)، الذي قال في حديث مع الجمهورية.نت إن المشروع مطروح أصلاً منذ نحو أربع سنوات.
كذلك ليس الخطاب العام للمتحدثين باسم مكونات الجبهة ولجنتها التحضيرية جديداً، بل هو يذكّر بأجواء الأشهر والسنوات الأولى بعد قيام الثورة، عندما طرحت هيئة التنسيق الوطنية نفسها نقيضاً لنظام الاستبداد، الذي تطالب بإنهائه بكل رموزه ومرتكزاته منذ انطلاقتها، فيما كان النظام ولا يزال يواجه حضورها وخطابها بالتضييق الأمني وإغلاق مساحات العمل، بالقوة والاعتقالات والترهيب، لكن دون أن يتجه إلى محاولة استئصال هذا الحضور وإنهائه كلياً. كما طرحت الهيئة نفسها أيضاً نقيضاً لـ«المعارضة الخارجية» والمعارضة «التي تستقوي بالسلاح»، معتبرةً أن مصدر شرعيتها هو سلميتها ووجودها العلني في «الداخل»، وهو الخطاب الذي تراجع حضوره قليلاً بعد خروج عدد لا بأس به من كوادرها من البلد، وبعد شراكتها مع الائتلاف في الهيئة العليا للمفاوضات، إلا أنه لم يَغِب في أي وقت، وتجري استعادته اليوم في سياق الحديث عن مشروع جود، أو التذكير به بشكل أو بآخر عبر تكرار استخدام كلمة «الداخلية» في سياق وصف مكوِّنات الجبهة السياسية.
ليس المشروع جديداً تماماً إذن، لكن فيه عناصر جديدة دون شك.
مكونات جود
هيئة التنسيق الوطنية هي المكوِّن الرئيسي في الجبهة الجديدة، وتتألف الهيئة من عدة قوى سياسية أبرزها حزب الاتحاد الاشتراكي ذو التوجهات القومية العربية، وحزب العمل الشيوعي، وكان حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي أحد مكوناتها الرئيسية – قبل أن ينسحب منها متابعاً مشروعه الخاص في قوات سوريا الديمقراطية وإدارتها الذاتية. وبشكل عام، تتألف هيئة التنسيق من تيارات وقوى وشخصيات ذات خلفيات قومية ويسارية، لديها موقف جذري مناهض للنظام، ولدى أغلبها تاريخ قديم في مناهضته من مواقع أيديولوجية متعددة، لكنها حرصت على اتخاذ تموضع سياسي مختلف عن القوى والأحزاب والتيارات الحاضرة في الائتلاف، معتمدةً خطاب «المعارضة الداخلية» في مواجهة «معارضة خارجية» كنقطة تمايز رئيسية كما أسلفنا.
وقد أعلنت اللجنة التحضيرية لجود أنّ قوى سياسية من خارج هيئة التنسيق ستنضم إلى الجبهة الجديدة، من بينها «المبادرة الوطنية»، وهي تيار سياسي يقوده معارضون سوريون يتخذون من محافظة السويداء مقراً لهم، حسب المعلومات التي حصلت عليها الجمهورية.نت. كما تضم جود حزب التضامن، وهو حزب حاصل على ترخيص من هيئة الأحزاب في وزارة الداخلية التابعة لحكومة النظام السوري، يحمل في خطابه ميولاً قومية عربية ذات أبعاد يسارية، لكن ليس في خطابه ما يشي بأي موقف معارِض للنظام. وبخصوص هذا التناقض الظاهر، بين مسار حزب التضامن ومسار هيئة التنسيق ومواقفها السياسية المعلنة، يقول بسام سفر للجمهورية.نت: «طالما يوافق الحزب أو التيار السياسي على بيانات الجبهة التي تتحدث بشكل واضح عن تغيير سياسي جذري في سوريا بناءً على القرار 2254، فإن ذلك لا يشكل أي تناقض بالنسبة لنا كأحزاب مكونة لهيئة التنسيق والجبهة الوطنية الديمقراطية».
وتفيد البيانات والتصريحات الرسمية بأن الحركة التركمانية السورية ستكون جزءاً من الجبهة الجديدة، وكانت الحركة في وقت سابق جزءاً من مجلس سوريا الديمقراطية، أي حليفاً سابقاً لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، إلا أنها انفصلت عن المجلس لاحقاً. يعني تموضعها السابق هذا استحالة انضمامها للائتلاف. ويبدو أن الحركة رأت في مشروع جود تحالفاً مناسباً لها، وهو ما يؤكده محسن حزام، عضو اللجنة التحضيرية للجبهة الوطنية الديمقراطية عن حزب الاتحاد الاشتراكي، في حديث له مع الجمهورية.نت. يضاف إلى الحركة التركمانية تجمعات وتيارات ومبادرات أخرى، من بينها رابطة الشيوعيين في السويداء وتيار مواطنة، وجميعها تحمل خطاباً عاماً قريباً من خطاب هيئة التنسيق.
كذلك تتحدث الأنباء عن انضمام أحزاب كردية للجبهة، هي الحزب التقدمي الكردي وحزب الوحدة الكردي (يكيتي)، اللذان يعملان اليوم بشكل مستقل عن كل من المجلس الوطني الكردي ومجلس سوريا الديمقراطية. إلا أنّ مصادر من داخل جود قالت للجمهورية.نت إنّ الحزبين فضّلا تأخير إعلان انضمامهما الرسمي إلى ما بعد انعقاد المؤتمر التأسيسي، وفي هذا السياق حصلت الجمهورية.نت على معلومات من مصادر مقربة من حزب الوحدة الكردي تفيد بأنّ التأخير أتى على خلفية نقاشات ضمن الحزب وأخرى مع حلفائه، انتهت إلى ضرورة انتظار موقف واضح من الجبهة بخصوص القضية الكردية، مع وجود اعتراضات على بعض مواقف مكوناتها من هذه المسألة، وهو ما تسبب في تأخير الإعلان الرسمي عن انضمام الحزب.
تموضع جود السياسي
انطلقت العديد من التقديرات السياسية من فكرة أنّ الإعلان عن مؤتمر سياسي للمعارضة السورية في دمشق مؤشر على محاولات لنقل العملية السياسية إلى دمشق، وهو ما أشار إليه عضو في الائتلاف السوري المعارض لم يكشف عن اسمه في تصريح لصحيفة القدس العربي. لكن بالمقابل، جاءت تصريحات المتحدثين باسم لجنة جود التحضيرية وبياناتها الرسمية على العكس من ذلك، ساعيةً إلى تثبيت الموقف السياسي ذاته الذي حملته هيئة التنسيق خلال السنوات الماضية. عن هذا يقول محسن حزام للجمهورية.نت: «جود ليست بديلاً عن أحد، وبالتأكيد لن تتخلى هيئة التنسيق التي انضوت أحزابها مؤخراً في جود عن الشراكة القائمة في الهيئة العليا للمفاوضات. سمعنا تصريحات بهذا الشأن من عضو الائتلاف في القدس العربي، وهي مخالفة تماماً للواقع». وفي هذا الإطار، قالت مصادر مقربة من هيئة التنسيق للجمهورية.نت إنّ الهيئة تعتبر أن تصريح عضو الائتلاف لم يكن سوى انعكاس للخلافات ضمن الهيئة العليا للمفاوضات، وذلك بعد الشكاوى المتعددة لهيئة التنسيق من تفرّد الائتلاف بالقرار. وكانت هيئة التنسيق قد أعلنت عن خلافات بينها وبين الائتلاف في الهيئة العليا للمفاوضات، وكان ذلك – بحسب مقربين من الهيئة – تعبيراً عن رفض تحكّم طرف إقليمي واحد هو تركيا بقرار الائتلاف، ورفض ابتعاده عن الأجواء التوافقية التي أُقيمت الهيئة العليا للمفاوضات على أساسها.
يضيف عضو اللجنة التحضيرية لجود محسن حزام في حديثه للجمهورية.نت: «نحن لم نطرح أنفسنا بديلاً لأحد، لكننا من خلال الإعلان عن جود في هذا التوقيت، كنا نحاول كسر الانسداد التام في العملية السياسية المرتبطة بسوريا، وتغيير حالة العطالة التي وصلت إليها المعارضة السورية نتيجة الخلافات الداخلية، وهذا لا يعني أبداً أننا سنتخلى عن أي من مواقفنا الواضحة من النظام السوري، ولا من مسألة التغيير الديمقراطي الجذري في سوريا وفق القرارات الدولية». في الاتجاه نفسه، يؤكد بسام سفر خلال حديثه مع الجمهورية.نت على هذه النقطة، ويضيف أن «الحديث عن توجهات لاستبدال الائتلاف أو هيئة المفاوضات غير صحيح، على الأقل ليس من قِبَلِنا، فهذه المؤسسات شُكِّلت برعاية دولية هي التي تمتلك على أرض الواقع قرار حلّها بشكل نهائي. وفي الأصل، كانت فكرة تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية خلق تحالف سياسي يضم القوى الديمقراطية من أجل مرحلة ما بعد الانتقال السياسي، ما يعني أن مهمة جود ليست استبدال أحد من أطراف المعارضة، بل تشكيل تحالف أوسع لمواصلة النضال من أجل الديمقراطية في سوريا».
ما الجديد إذن؟
لا يبدو حتى الآن أن مشروع جود يتضمن جديداً على صعيد الخطاب أو الموقع السياسي، فهو لا يقدم خطاباً سياسياً مختلفاً عن خطاب هيئة التنسيق، ولا يخلق تموضعاً سياسياً جديداً في السياق السوري. لكنّ ما يبدو واضحاً هو عمل أحزاب هيئة التنسيق على عقد تحالفات جديدة أوسع مع جهات تمتلك حضوراً على الأرض في مناطق سيطرة النظام السوري، وعلى عقد تحالفات جديدة في الأوساط السياسية الكردية. أما الجديد الأبرز فهو الظروف التي رافقت الإعلان عن المؤتمر التأسيسي الشهر الماضي، الذي يبدو واضحاً أنه لم يكن فقط نتيجة شهور وسنوات من العمل التحضيري، إذ تُظهِر مواقف المتحدثين باسم اللجنة التحضيرية للجبهة ارتباط هذا الإعلان بحالة الانسداد في المسار السياسي السوري، ما يعني أنها محاولة لالتقاط مؤشرات من القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا الملف، وللتفاعل مع الظروف الطارئة بغية إحداث تغيير في المعادلات القائمة.
ولكن بنتيجة التفاعل الصفري للقوى الدولية مع كل المبادرات الحالية، بما فيها مبادرة جود، لا يبدو أن هناك فائدة سياسية مباشرة من إنشاء أي تحالفات جديدة تستأنف التحالفات القديمة. وإذ تحاول قوى وشخصيات سياسية سورية كثيرة رمي أحجارها في مياه الحل السياسي السوري الراكدة، لا يبدو أن لدى أي منها حجراً ثقيلاً قادراً على تحريك هذه المياه فعلاً، أما الجهات الدولية والإقليمية القادرة على التحريك، فلا يبدو أنها تريد ذلك الآن. ليس قبل أن تنضج التفاهمات، أو قبل أن يأتي حدث كبير يغير من معطيات المعادلة الراهنة.
المصدر: الجمهورية. نت