ما زالت المؤسسات البحثية الإسرائيلية منشغلة بصورة لافتة، بدراسة الخيارات الإسرائيلية تجاه تطورات الملف السوري في الذكرى السنوية العاشرة لانطلاق الثورة الشعبية في مارس/ آذار 2011.
آخر المتابعات الإسرائيلية تناولت الحديث عن ضرورة إعادة تقويم السياسة الإسرائيلية بعد مرور هذا العقد الكامل، على اعتبار أن النهج الذي وجه سياسة عدم التدخل الإسرائيلي في الملف السوري، فقد مفعوله لعدة أسباب: ذاتية وموضوعية.
أول هذه الأسباب أن الأسد منح إيران الفرصة لتوسيع نفوذها في سوريا، والتموضع في مستويات مختلفة في الدولة على مدى الزمن، وخلق لإسرائيل تحديا أمنيا على حدودها الشمالية، وعملت طهران على دعم الأسد عبر حزب الله وتجنيد عناصر ميليشياتها وتدريبهم وتسلحيهم، وعمقت إيران نفوذها في الجيش السوري من خلال النفوذ الإيراني المتنامي في سوريا، فقد هيأت قواعد لفيلق القدس التابع للحرس الثوري في شمال سوريا، ما يسمح بانتشار سريع للقوات، ووسائل إطلاق الصواريخ، والطائرات المسيرة الهجومية نحو إسرائيل عند الطوارئ، ولذلك فإن الهجمات الجوية الإسرائيلية، لا تمنع التموضع والنفوذ الإيرانيين المتعاظمين في سوريا، لكنها تشوش بعض الشيء المخططات الإيرانية لخلق جبهة هجوم ضد إسرائيل.
أما السبب الثاني فيتعلق بعدم توقع إسرائيل لحل سياسي للأزمة في سوريا طالما بقي الأسد في الحكم، وشرارات الاحتجاج تبدو منذ الآن حتى في أوساط المناطق المؤيدة للنظام، التي لم يتجاوزها الجوع، ومن هنا فإن بقاء الأسد سيضمن لسنوات أخرى انعدام الاستقرار، وسيعمق تلك الظروف التي أدت إلى نشوب الاحتجاجات والاضطرابات الداخلية منذ البداية، قبل عشر سنوات، على الأقل وفق النظرة الإسرائيلية الخاصة، مع العلم أن إصرار الأسد على عدم إجراء إصلاحيات سلطوية، أو تقديم أي تنازلات سياسية، هو عائق في وجه كل محاولة تحقيق تسوية بوساطة الأمم المتحدة أو بقيادة روسيا، فما بالنا وواشنطن تمتنع عن المطالبة الصريحة بـ”تغيير النظام”، مع أن بقاء الأسد في الحكم يضمن ألا يعود معظم اللاجئين إلى سوريا.
السبب الثالث أنه بقدر ما يدور الحديث عن نظام الأسد، فإن حجة أنه يوجد “عنوان مسؤول” يمكن أن تتبع تجاهه قواعد لعبة فقدت من قيمتها، وهي قناعة إسرائيلية باتت متزايدة، والدليل أن الأسد لا يسيطر بشكل فاعل حتى في المناطق التي سيطر عليها عسكرياً.
هذه الأسباب سابقة الذكر دفعت بالإسرائيليين للحديث عن ثلاث فرضيات إسرائيلية، تبددت مع مرور السنوات العشر الأخيرة، أولاها أن جهد الهجمات الجوية سيمنع التموضع الإيراني العسكري في سوريا؛ وثانيها أن روسيا ستبذل مزيدا من الجهود لدحر الفروع الإيرانية عن سوريا، وتقليص نفوذ طهران في الدولة؛ والثالثة أنه من الأفضل وجود حكم مركزي، حتى تحت قيادة الأسد، في دولة موحدة، على كثرة العناوين الأخرى.
القناعة الإسرائيلية أنه طالما بقي الأسد في الحكم، فلن يكون ممكنا دحر إيران وفروعها من سوريا، وبالتالي فإن المطالبات الإسرائيلية المستحدثة تسعى لتشجيع مبادرة واسعة لإزاحة الأسد عن الحكم مقابل المساهمة الدولية ومن دول الخليج لإعادة بناء سوريا، وإلى أن تستقر من جديد، توصي المحافل البحثية الإسرائيلية بأن تأخذ الدولة مخاطر في المدى الزمني القصير كي تمنع إيران وفروعها من السيطرة على سوريا، بزيادة دورها في ثلاثة مجالات استراتيجية حيوية.
المجال الأول يتعلق بمناطق جنوب سوريا، ومن أجل منع إيران من إقامة حدود احتكاك عال في هضبة الجولان، توصي تلك الأوساط إسرائيل بأن تستغل ضعف نظام الأسد، ومنافسة النفوذ بين إيران وروسيا، كفرصة لاتخاذ سياسة فاعلة في المجال؛ بضرب الفروع الإيرانية، بما في ذلك قوات حزب الله، وبالتوازي تعزيز القوات المحلية، وإقامة علاقات مع المحليين المعارضين للنظام، مع منح مساعدة إنسانية تساهم في خلق “جزر نفوذ إسرائيلية”، وهكذا تشوش مخطط التموضع الإيراني في المنطقة، دون ضمان نجاح هذه السياسة الإسرائيلية.
المجال الثاني يتعلق بمناطق شمال شرق سوريا، ومع التشديد على منطقة الحدود العراقية السورية، تستعد إسرائيل لسيناريو إخلاء القوات الأميركية، وإيران جاهزة للسيطرة على الفراغ الذي سينشأ لتثبيت الجسر البري من العراق إلى سوريا ولبنان، وفي هذه الحالة توصي الأوساط البحثية الإسرائيلية بأن تطور إسرائيل قنوات تعاون في الظل، مع بعض الأطراف السورية، ومنحها مساعدة عسكرية واقتصادية، وبجانب ذلك بناء منصة لنشاط عملياتي متواصل في هذه المنطقة لمنع السيطرة الإيرانية على هذا الإقليم الاستراتيجي، الغني بمقدرات الطاقة والزراعة.
أما المجال الثالث فيتعلق بحدود سوريا مع لبنان، لأن الرد المتبادل بين حزب الله وإسرائيل اتسع إلى الأراضي السورية، والمنطقة المحيطة بالحدود السورية-اللبنانية، التي توجد تحت سيطرة الحزب، مما يسمح له بنقل الوسائل القتالية إلى لبنان، وإقامة صناعة تهريب حيوية له، بل ونشر وسائل قتالية، في يوم إصدار الأمر ضد إسرائيل.
إن سيطرة حزب الله على “الحدود السائبة” بين سوريا ولبنان، تعبر عن ضعف استراتيجي لإسرائيل، سمح بتعاظم الحزب بعد حرب لبنان الثانية 2006، وتشكل رافعة نفوذ سياسي عسكري اقتصادي واجتماعي له في سوريا، مما يستلزم التوصية بأن تصعد إسرائيل نشاطها العملياتي في المنطقة ضمن استراتيجية “المعركة بين الحروب”، وبجانب ذلك، ربما تشجع إسرائيل تدخلا دوليا لإغلاق الحدود بين سوريا ولبنان، على أساس التقدير بأن هذه الخطوة حيوية لإعادة بناء لبنان، وإضعاف الجهات المعادية في المنطقة كلها.
في الوقت ذاته، تلوح فرص إسرائيلية، ولو كانت محدودة، تتمثل بإمكانية أن يصعد للحكم بدلاً من الأسد نظام ديموقراطي يبتعد عن إيران، وحزب الله، وفي هذه الحالة، تبدي إسرائيل سياسة حذرة تجاه ما قد يحصل عبر جملة من الخطوات، أهمها: الامتناع عن أي تدخل علني أو سرّي فيما يجري داخل سوريا، سواء بالأفعال أو الأقوال، وتنفيذ اتفاق فصل القوات الذي بفعله يسود الهدوء في حدود الجولان، ومطالبة كل حاكم سوري بالحفاظ عليه في المستقبل، والإعلان أنها ستجري مفاوضات سلام مع كل حكومة سورية تنال الشرعية والاعتراف، أما السوريون فينبغي لهم، ويمكنهم أن يحلوا مشكلاتهم بأنفسهم.
إن مرور عشر سنوات بالتمام والكمال على اندلاع الثورة السورية زادت من طرح السؤال القديم الجديد داخل الأروقة الإسرائيلية، وبقي يتردد في محافلها مطولاً، وهو: هل التطورات في سوريا ستؤثر على إسرائيل، بمعنى آخر، هل الصعود المتوقع لمعارضي الأسد من شأنه أنْ يمسّ بعلاقات سوريا بإيران، ويضعف حزب الله، مع أن عودة من سيطروا على سوريا حتى منتصف سنوات الستينيات، ليس مشجعاً لإسرائيل إطلاقاً، فربما تتوقف سوريا عن دعم حزب الله، لكنها ستسمح بعودة الإخوان المسلمين، وستزيد من تأييدها للمنظمات السُنية، وعلى رأسها حماس.
لقد تحدث الإسرائيليون عن مدى المخاطر المتوقعة في حال تغير النظام في سوريا، وأبرزها وقوع مخازن الصواريخ والسلاح الكيماوي في أيادٍ خطيرة، إذا حاول الحكم المنهار تشديد المواجهة مع إسرائيل في سبيل البقاء، أو إذا استخدم حلفاؤه النزاع معها لكسب الشرعية الداخلية، كما تكمن فيها الفرص، إذا صعد للحكم بدلاً من الأسد نظام ديموقراطي يبتعد عن إيران، وحزب الله، وحماس.
لقد كان واضحاً أن ما يحدث في سوريا من ثورة شعبية، ودخولها في حرب أهلية، يلزم إسرائيل باتخاذ موقف محدد، قادر على القراءة السليمة للتطورات الداخلية هناك، ومستعد، بل متأهب أمنياً، لانتهاز الفرصة السانحة برأس منفتح، لأن تغيير النظام في سوريا له آثار بعيدة المدى على الشرق الأوسط وأمن إسرائيل، على اعتبار أن ما يحدث في سوريا شكل معضلة لها، ولأن حيرتها جاءت بسبب التداعيات المحتملة على المعطيات التي ظلت جارية على خطّ سوريا –إسرائيل.
إن انقضاء هذه السنوات العشر من اندلاع الأزمة السورية، منح وجهة النظر الإسرائيلية إزاءها العديد من الانعكاسات المترتبة عليها، ومنها أن الاحتجاجات السورية أضعفت قدرات ومواقف دمشق، وإن استمرار الاضطرابات والتوترات في سوريا من الصعب جداً أن يؤدي لتحقيق استقرار وأمن المنطقة، كما أن السعي لرصد ومتابعة التطورات الجارية في سوريا، قد يتيح لإسرائيل القدرة لفرض النفوذ على الشأن السوري، وبالتالي بقية الشرق الأوسط، هكذا تأمل إسرائيل، دون أن يكون لديها بوليصة تأمين لنجاح مخططاتها هذه.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا