ماذا تريد فرنسا من مواطنيها المسلمين؟

ولاء سعيد السامرائي  

ربما يكون إعلان المختطفة الفرنسية السابقة، صوفي بيترونن، التي عادت قبل ستة أشهر من مالي، إسلامها، قد فوت على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فرصة مناسبة لبدء حملته الانتخابية المقبلة بخطاب بشأن ما يسميه حلف شمال الأطلسي (الناتو) ودوله بالإرهاب الإسلامي! ذلك أن الإجراءات ضد مسلمي فرنسا التي أعقبت وصول بيترونن كانت شديدة العنف بشكل غير مسبوق في أي حكومة سابقة.

بعد حملة تسقيط الشخصية المسلمة الوحيدة المؤثرة لأستاذ الجامعة، المفكر طارق رمضان، الذي أقرّ البوليس بوجود شبكة معروفة بأسمائها عملت للإيقاع به، وتوقيع مجموعة من نخب المشهد الإعلامي والثقافي الفرنسي، الدائمين على القنوات والبرامج منذ أربعين عاما على عريضةٍ توصي بمنع جمعيات المجتمع المدني المسلمة من عرب وأفارقة من الحصول على أماكن للاجتماعات وللنشاطات والاحتفالات والندوات، بحجة “الانعزالية” عن المجتمع الفرنسي، بعد هذا وذاك، يستمر الهجوم اليوم، وبشكل منظم، بحجة “الإسلاموية اليسارية”، من قنوات وأصوات اليمين المتطرّف، والذي يعبر عنه فرنسيون وصهاينة معادون للعرب، وأصدقاؤهم في الخطاب من العلمانيين الكذبة الذين يقنّعون خطاب الإسلاموفوبيا بالعلمانية لا غير. وتعبير الإسلاموية اليسارية أوجده آندريه تاكييف، الصهيوني المتطرّف من المحافظين الجدد الفرنسيين، قبل أكثر من عقد، في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكان وقتها أسلوبا شرسا من الحلقات الصهيونية التي فقدت أعصابها أمام التضامن الفرنسي والعالمي للحق الفلسطيني، لتقوم بهجوم منظم ضد الأحزاب اليسارية من الحزب الشيوعي، إلى أحزاب أقصى اليسار. بقيت هذه الأوساط في حالة حرب مع اليسار منذ ذلك الوقت، محاربة كوادره وشخصياته البارزة الملتزمة بالدفاع عن الحق الفلسطيني، حتى تمكّنت، بالضغط المستمر وبالابتزاز السياسي وغيره، من “تخفيف نقدهم” السياسة الإسرائيلية، بل حتى التخلي عن مساندة القضية الفلسطينية. ومع ذلك لم تتوقف هذه الحملات، بل ازدهرت أكثر ضد حزب “فرنسا غير الخاضعة”، المنافس والأكثر حظا للفوز أمام الرئيس ماكرون في الانتخابات المقبلة، السائر ضد التيار الإسلاموفوبي المهيمن على السياسة والإعلام، متهمة إياه بالإسلاموية اليسارية.

وقد اغتنم رئيس كتلة هذا الحزب في الجمعية الوطنية، جان لوك ميلانشون، تعدّد مناسبات الهجوم على الإسلام والمسلمين في وقت واحد، من اقتراح مشروع لقانون سمي “الانعزالية وميثاق المبادئ لإسلام فرنسا”، والذي طلبت الحكومة كتابته من مجلس مسلمي فرنسا، والهجمة على الجامعات والأكاديميين في مجال الدراسات الاجتماعية، ليقدّم مداخلة تاريخية أمام الجمعية الوطنية ضد قانون “الانعزالية”، فند فيها، بالوقائع والأحداث التاريخية لفرنسا وتاريخ المسيحية والإسلام، الإجراءات التي تقوم بها حكومة الرئيس ماكرون ضد مواطنيها المسلمين، إذ بدأ بالقول إن هذا القانون خطر، لأنه يهدّد الحريات، ويفتح بابا على مواطنينا المسلمين، لأن الانعزالية كمفهوم قانوني غير موجود!. وانتقد ميلانشون بعد ذلك وضع مادة في القانون تفرض قسَم الولاء على الجمعيات التابعة للمسلمين، قائلا إن هذا أمر لا معنى له وخطير، وهو غير مطلوب من الفرنسيين، والجمهورية لا تحتاج قسَما، بل تحتاج احترام لقوانينها. ومن ثم خاطب ميلنشون النواب في الجمعية الوطنية بالقول إن هناك كورونا، ماذا تفعلون في هذا الحين؟ تناقشون الحجاب الذي تم تنظيمه سابقا بقانون؟ خمسة عشر يوما سنناقش مقترح “علاقة” أعمال الإرهاب “المفترضة” بالإسلام؟ الأنواء الجوية تحدثنا عن آثار تدمير البيئة التي تنتظرنا، ونحن نناقش تعدد الزوجات المحدّد بقانون في فرنسا! واستطرد الرجل يقول “هناك عشرات المراكز الاجتماعية، ونحن نناقش إعطاء تأييد للعذرية، والذي منعته أصلا نقابة الأطباء، بل هناك عشرة ملايين فقير وثمانية ملايين عاطل في فرنسا، لكننا منشغلون بالكلام عن إبقاء وجبة الحلال للمسلمين أم إلغائها”.

أظهر رئيس كتلة حزب فرنسا غير الخاضعة، في خمسين دقيقة من المداخلة، أن قوانين الجمهورية، وكل ما تبعها من تعديلات منذ عقود، تغطّي كل ما هو مطروح، بل إنه يفيض لكثرة ما تم استعماله والعودة في كل مرة إلى إضافة هذه المادة أو تلك. ليس ذلك فحسب، بل إنه أشار إلى الانعزالية الحقيقية التي تعيشها فرنسا، وهي الانعزالية الاجتماعية للطبقة المتهرّبة من دفع الضرائب، والتي تتنعم بكل امتيازات البلد، ولا تساهم بما عليها من ضريبةٍ يفرضها القانون على كل المواطنين، من دون تمييز، كفيلة بحل مشكلات كثيرة. وقال ملاينشون إن “الانعزالية هي في عدم محاسبة أعضاء رابطة الدفاع اليهودية الممنوعة في إسرائيل وأوروبا وأميركا، ما عدا فرنسا التي طردتنا، نحن نواب الشعب، من تظاهرة دعم يهود فرنسا!”.

عبر هذه الإجراءات، تبدو حكومة الرئيس ماكرون هي التي تؤسّس لعزل المواطنين المسلمين، وليسوا هم من يعزلوا أنفسهم، ويبدو التعامل معهم خارج القانون وليس به. وهذا ما يؤكده أيضا ميثاق المبادئ الذي كتبه المجلس الإسلامي الفرنسي بطلب حكومي، والخاص بعمل الجوامع، وطُلب من الجوامع التوقيع عليه. رفض كثيرون من أئمة الجوامع توقيع هذا الميثاق، لأنه وثيقة تقنن حرية المسلمين وحقوقهم في ممارسة حياتهم وعبادتهم، بل فيها تدخل صارخ بجوانب تربية الأبناء، وما عليهم أن يقولوه أو لا يقوله بخصوص قضايا بلدانهم السياسية. في هذا الميثاق، يمكن قراءة المطلوب من مسلمي فرنسا وراء السطور، ليكونوا “ربما” مواطنين كالآخرين، وهو عدم التدخل في الدفاع عن فلسطين، أو أي قضية أخرى وعدم التصريح بوجود عنصرية أو إسلاموفوبيا، لا في المجتمع ولا في الدولة.

الهجمة الثالثة التي شنت على مسلمي فرنسا هي تصريح وزيرة التعليم العالي والبحث والتجديد، فريدريك فيدال، عن إنشاء لجنة من أعضاء المجلس الوطني للبحث العلمي، للتحقق حول “مدى علمية” “مفهوم الإسلاموية اليسارية” التي توصم بها الدراسات الاجتماعية، وبعض فروع الدراسات متعدّدة التخصصات. وصفت الوزيرة هذا المفهوم بأنه يأكل الجامعات، مستعملة تعبير مرض الغرغرينا، وأنها تريد حماية الأكاديميين والجامعيين والباحثين، وفصل ما هو علمي عما هو سياسي ونشاط حزبي، فما كان من 600 من الأساتذة والباحثين في المجلس الوطني للبحوث وفي الجامعات، إلا أن ردّوا بتوقيع رسالة شديدة اللهجة ضد الوزيرة، مطالبين باستقالتها، إذ اعتبروا استهداف الدراسات الاجتماعية ومواضيع وقضايا البحوث عن الاستعمار وما بعده، وإيجاد الحلول للمشكلات التي ترتبت عليه من تجريم عرقي وعنصرية وإسلاموفوبيا تشهيرا وتسقيطا، واعتبروا الهجمة على الجامعات والدراسات في هذه المواضيع قمعا فكريا وثقافيا، متأسفين على استعمال الوزيرة تعابير اليمين المتطرّف ضدهم.

تطرح حكومة الرئيس إيمانويل ماكرون قانون الانعزالية، ويصدر ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا، وتستهدف الدراسات الاجتماعية الموصومة بالإسلاموية اليسارية، وذلك في غضون أزمة كورونا، ليُضاف خوف آخر إلى خوف الناس من العدوى بهذا المرض الذي سبّبت إدارته مشكلات كبيرة لشرائح الطلاب، ولملايين العاملين الذين فقدوا أعمالهم بسبب الحظر المفروض على مجموع النشاطات التجارية والسياحية، بل لغالبية الشعب الفرنسي الذي اتعبه الحظر وتبعاته. بل إن استعمال ورقة الإسلام والمسلمين خلال الأزمة هو اختيارٌ محسوب، ورغبةٌ من الرئيس الفرنسي بجذب واسع لأصوات اليمين المتطرّف لانتخابه لدورة رئاسية ثانية، بدليل توقيت المناظرة التلفزيونية لوزير الداخلية، دارمانن، مع رئيسة حزب التجمع الوطني (المتطرف)، مارين لوبان، حيث تبادل الطرفان، الحكومي والمتطرّف، المشاعر المشتركة حول أخطار الإسلام والمهاجرين، حتى ذهب الوزير إلى القول إلى رئيسة اليمين العنصري إنها غير فعالة بما فيه الكفاية، لترد هي عليه بأنها مستعدّة للبصم على كتابه الصادر حديثا، وعلى برنامجه الانتخابي من دون أي مشكلة؟ في هذا الهجوم الواسع على الإسلام ومسلمي فرنسا، يبرز تأثير الحلقة الصهيونية المقرّبة من الرئيس، والتي تقف وراء أفكار عديدة تبناها منذ ترشّحه، للإجهاز على تضامن أهم جالية فرنسية مسلمة، ومنعهم من إظهار تعاطفهم مع الحق الفلسطيني، وهو ما لن يتحقق لكل هذه الحلقات. وفي الوقت نفسه، قطع الطريق على أي تأثير ديني، يأتي خصوصا من تركيا!

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى