بعد 15 عاما من هذا الاتصال، تفشل الصحافة الأميركية في فهم شخصية ذلك الملك الشاب، فتصفه تارة بالطفل المدلل، وتارة بالملك التافه، وفي معظم الأحيان بـ”ملك مصر البدين”، يجمع بين متناقضات، فهو غارق في الملذات لكنه مع ذلك حزين وربما أقرب للاكتئاب، نزق وخجول ووقح في الوقت نفسه! تفشل الصحافة أيضاً في تحديد ثروته الحقيقة، لكنها تؤكد أنه أصبح قادراً على شراء أي شيء عدا شيء واحد.. رضا شعبه.
توفى الملك فؤاد بعد حكم دام 19 عاما وورث فاروق بالإضافة الى عرش مصر، ثروة تقدر بـ50 مليون دولار، ودخل سنوي يصل إلى 400 ألف دولار، و4 قصور فارهة فضلاً عن العزب الممتدة واليخوت والمجوهرات النادرة، وقبل الوفاة بستة أشهر كان الأمير الشاب قد وصل إلى بريطانيا لتلقى التدريب في الأكاديمية العسكرية الملكية في وولويتش وحضور بعض الدروس في سلوكيات الملكية وفنونها.. لكنه لم يكمل تدريبه وانتُزع من طفولته إلى عرش مصر مباشرة.
وفقا لمقالات تلك الفترة التي جمعها أسامة حمدي في كتابه الجديد “ما خفي.. مصر بين فاروق وناصر في الصحافة الأميركية”(*) كانت الصحافة الأمريكية مهتمة بالملك الشاب لكنها حائرة في توصيفه، تكتب مجلة تايم في آب/أغسطس 1937 عن “صبي الكشافة الذي أصبح مشيراً”، راصدة حالة الارتباك التي أصابت الجميع في وقائع تنصيب الصبي صاحب ال18 عاماً ملكاً على مصر، فحتى الحكومة نفسها لم يكن لها سابق خبرة في التعامل مع هذه الأمور، أجرى النحاس باشا رئيس الوزراء اتصالا بخبراء البروتوكول في فرنسا ليقرروا إن كان يمكن للملك الجديد أن يرتدي تاج “توت عنخ آمون” المكتشف حديثاً. كانت فكرة جيدة لكنها لم ترق لـ”الولاة المسلمين”، فكان البديل هو سيف محمد علي المرصع بالذهب، لكن لم يتسن العثور عليه! “وفي غيبة كل من التاج أو السيف أمرت حكومة صاحب الجلالة أن يكون الموكب مؤلفاً من سيارات ليموزين فاقعة الاحمرار، ثم غيرت ذلك بتخصيص سيارة حمراء ناصعة لرئيس الوزراء وعربة ذهبية ناصعة للملك فاروق”.
لم تتوقف الصحافة الأميركية عن متابعة الملك الجديد، ففي العام التالي تهتم بأحداث زواجه وبالبهرجة التي صاحبت الحدث الكبير، بل وبالثناء على أخلاقه وتواضعه، لكن النغمة تتغير إلى النقيض بعد ذلك بسنوات.. لم يمض سوى 13 عاماً تقريباً حتّى أضحى الشاب الخجول الذي اعتلى عرش مصر، وقد تزوج وطلق وازداد وزنه نحو 90 رطلاً.. وفي أبريل 1950 تقول مجلة “لايف” إن الدهشة تصيب الزائرين الذين يصادفون الملك الآن في الكباريهات التي يرتادها، فيرون فيه شخصاً غليظ الملامح “ذا طابع خنزيري”، وقد بدأ شعره في التلاشي وأصبحت عليه ملامح “رئيس مصرف ممتلئ”.
تقول المجلة إن التغيرات لم تطل شكله وجسده فقط، بل إنه صار “متقلّب المزاج ومتوتراً وعنيدا” فهو يتباسط مع ضيوفه في نادي السيارات الملكي، ويداعبهم حتى أنه يقلد أصوات الباعة الجائلين، لكن هذا التباسط قد يكون خادعاً في بعض الأحيان حين يتمسك الملك فجأة بتطبيق مظاهر البروتوكول، بل إن تصرفاته تنم في بعض الأحيان عن فجاجة وغباء حيث درج على زيارة منازل الفقراء… وفي إحدى الزيارات قال للأسرة الفقيرة، بكل بساطة، وكنوع من المواساة “آمل أن تتمكنوا يوماً ما من تناول الطعام الجيد الذي آكله”!
بسبب نزواته وعلاقاته النسائية المتعدّدة، لاحقته الشائعات وأصبح هو في المقابل حساساً جداً تجاهها، لكنه لم يتمكن أبدا من إيقافها.. تحاول المجلة فهم سبب ضياع شخصية الملك، فتقول إن أحد أهم العوامل هو الوفاة المباغتة للملك فؤاد عام 1936 مما عجل بوقف تعليمه والدفع به إلى الاضطلاع بدور لم يكن مؤهلا له “فاروق ملك لم يدخل الجامعة، ولم يسافر إلا لماما. في السادسة عشرة من عمره، كان محاطا بحاشية القصر التي حققت له كل نزواته، ولم تجرؤ على معارضته وكانت المأساة أنه لم يحظ بالانضباط الذهني أو الشعور بالاتزان القيمي”، تأثرت شخصيته أيضاً بسبب فشل زواجه الأول بالملكة فريدة، التي طلبت الطلاق منه بسبب خياناته الواضحة والمتكررة، لذا تصفه المجلة ب”الطفل المدلل” حين أطاع نزواته إلى حد أنه أصر على الزواج مجدداً بفتاة من عامة الشعب، عمرها ستة عشر عاماً (ناريمان صادق)، وتجاهل الغضب الذى أصاب جميع من رأى أنه ليس من الإنصاف أن يتعدى على خطيبة رجل آخر.
صائد البط
تواصل المجلة التركيز على الجانب الشخصي في حياة الملك الغارق في ملذاته، فتقول إنه يستيقظ متأخرا في قصر القبة وأحياناً في قصر عابدين، يبدأ يومه بإفطار شهيّ مكوّن من 5 أو 6 بيضات على الأقل وسلطانية عصيدة وطبق فول وبراد قهوة.. يوقع بعض الأوراق، يلقى نظرة على ملخص ما قالته الصحف قبل تناول الغذاء، الذي يتكون من الخوخ والاستاكوزا والدجاج والرمان والمانجو ولحم الماعز وسمك موسى ولحم وبطاطس وفاصوليا وأرز وخرشوف! يقضى ساعة أو ساعتين في صيد البط، يختتم يومه في نادي السيارات للعب القمار.
ورغم التفاصيل الكثيرة الواردة في المقال، لا يزعم كاتبه أنه توصل إلى فهم حقيقة شخصية فاروق، بل تبدو المعلومات الوفيرة والمتناقضة قد زادت من حيرته. يقول بعد هذا كله إنه إذا نظر إلى الملك لا يعرف ماذا يدور في فكره “هل هو راضٍ أم غير ذلك؟ هل هو قلق أم زاهد في الدنيا؟” لكنه ألمح في الوقت نفسه الى حالة الاكتئاب التي تصيبه في كثير من الأحيان، ففي إحدى زياراته لضابط أميركي أقام حفلة للصيد وتحدث عن الزيارة الناجحة لشاه إيران للولايات المتحدة، وتساءل إن كان الملك قد فكر بالقيام بزيارة مماثلة “اعتلى الوجوم وجه فاروق وقال غاضباً: من ذا الذي يدعو ملكاً بديناً أصلع أعمى؟ ثم اتجه نحو منطقة الصيد وأمسك بندقيته وبدأ يطلق أعيرة على أطباق فخارية تتطاير في السماء، كما لو كان طفلاً باغته الجنون يحطم أفضل ما لديه من ألعاب”.
خلال سنواته الأخيرة على عرش مصر، أصبحت الولايات المتحدة لا ترى في فاروق إلا مجرد ملك تافه، وانصبت أغلب المتابعات الصحافية على أغرب نزوات الملك والشائعات الدائرة حوله. تصف المجلات رحلاته بألف ليلة وليلة، وتفرد مجلة “تايم” صفحات لرحلته إلى الريفيرا في عددها الصادر في أيلول/سبتمبر 1951 فتقول إن الملك الذي صار في الحادية والثلاثين من عمره، تحول إلى أكول بشراهة ومتهوّر في القمار وذئب نساء، وأن الطهاة يوصلون الليل بالنهار في فندق الكارلتون لأن صاحب الجلالة قد يشعر بالجوع ليلا أو نهارا وقد شغل هو وحاشيته 13 غرفة بتكلفه بلغت 2000 دولار يومياً… يصرخ “كسبتك” إذا حالفه الحظ في القمار ويضحك حين الخسارة.
إذا كان هذا هو حال الملك فكيف كان حال مصر؟
كان رأي الولايات المتحدة أن مصر “بماضيها التليد وحاضرها الخاوي”، تمتلك إمكانيات القيادة ومقوماتها، وسواء كانت على قدر هذا الدور أم لا فإن لها موقعاً استراتيجياً في الشرق الأوسط. أما الشعب فكان نصف أطفال مصر يموتون قبل أن يصلوا إلى الخامسة من العمر، ويصاب الآخرون قطعا بالمرض في معظم الأحوال.. يعمل 14 مليون فلاح وهم 70% من السكان في أرض لا يملكونها، ويهلكون في إنتاج محاصيل لا يأكلون منها، ويتقاضون أجوراً لا تسد رمقهم.. يعيشون في بيوت من الطمي ويفترشون الأرض ويلبسون الملابس المرقعة ويعيشون على خبز الفقراء. أما الطبقة الحاكمة فلا تعبأ بكل ذلك ولا يفكر أفرادها إلا كيف يهربون من شمس القاهرة الحارقة إلى بحر الإسكندرية أو الريفيرا، وحين يعودون إلى القاهرة في الخريف تقتصر نساؤهم المتشحات بالملابس الباريسية والألماس على العيش في عالم صغير مغلق، ويتنقلن بين المسارح والنوادي والقصور”. لذا حين ترجم السخط الشعبي الى حركة فعلية على الأرض لم يجد الملك أي دعم شعبي يذكر.
جمع المؤلف مادة كتابة من الصحافة الأميركية على مدى 33 عاما، اقتطع عنوانه من المثل الشهير “ما خفي كان أعظم”ـ للتدليل على أن ما سمحت به الإدارات السياسية خلال تلك السنوات، لم يكن شيئاً، مقابل ما كان يقال ويسمح بنشره في الصحافة الغربية الغائبة عن المواطن المصري.. يقدّم الصحافة كأداة للتأريخ حيث يتناول الكتاب الذي جاء في أكثر من 400 صفحة، مصر في الفترة من 1937 وحتى 1970 بكل ما دار في تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر من تغيرات طالت الوجه السياسي والاجتماعي، وأثرت على المنطقة بالكامل، وأشهر الوجوه التي ظهرت على الساحة خلال تلك الفترة الحرجة والطويلة.
يقول المؤلف إن أكثر ما أعجبه في تلك المقالات، هو أن كتابها كانوا متحررين تماماً من أي ضغط داخلي. ويبحثون من وجهة نظرهم على الحقيقة في وقتها لينقلوها لقرائهم في أميركا. لذا جاءت المقالات كاشفة كما نتأكد الآن، بل يمكن اعتبارها وثائق تاريخية نادرة، خصوصا المادة المرتبطة بفترة الملك فاروق، وبدرجة أقل المادة التي يتيحها الكتاب -على أهميتها- عن جمال عبد الناصر وفترته، لأن بعضها كان متاحاً فعلاّ وقتها، وكثير منها أيضا ظهر على فترات بعد وفاة ناصر ومرور كل تلك السنوات في كتب وتحليلات تلك الفترة المهمة من تاريخ مصر.
لكن لا يمكن بأي حال أن نقول إن الرؤية الأميركية كانت منزهة عن الهوى، فالكتابات عن جمال عبد الناصر مثلاً، كانت تختلف تبعا للموقف الأميركي منه، تمتدح ذكاءه تارة وتصفه بالبطل الخارق والزعيم الطموح، ثمّ تعود لتصفه بالديكتاتور تارة أخرى. لكن الصفة الأساسية والثابتة أنه ظل محيراً ومخيفاً للغرب على الدوام، وكان هو في المقابل يعرف كيف يشعل هذا الخوف، بل ويفسره في بعض الأحيان.. يقول لمحرر مجلة “لايف” في 1959 “أرى أن خشية البريطانيين من شخصي أقل من خشيتهم من كوني رمزاً فلا يزال الأمل يراودهم في ممارسة النفوذ على بعض أجزاء الشرق الأوسط كالكويت والعراق. ففكرة الاستقلال التي أذود عنها هي بمثابة خطر على طموحات البريطانيين، فهم لا يخشون عبدالناصر، وإنما يخشون ما يمثله عبد الناصر”.
ستظل تحليلات تلك الفترة لها أهميتها وخصوصيتها أيضا، كالافتتاحية التي كتبها جيمس بل في مجلة “لايف” في آذار/مارس 1954 والتي تحدّث فيها عن مفاجأة اكتشاف ناصر للمرة الأولى “انتهى عرض مسرح العرائس في مصر. فمن كان يجذب الخيوط من وراء الكواليس ظهر على خشبة المسرح. إنه جمال عبد الناصر” قال “بل” إن عبد الناصر حكم مصر “منذ الانقلاب” من خلال الرجل الذى اختاره هو بنفسه اللواء محمد نجيب، الذي تقلّد سلطة رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ولم يمارسها، وكانت الصحف الأميركية كما يرد في الكتاب أيضا قد وصفته بـ”الرجل الطيب” في إطار مناقشتها لقدرته على محاربة الفساد الذي أصبح “أسلوب حياة” في مصر “مرده الشعور بانعدام الأمن والأمل وما يجلبه الغد أو يسلبه”. قام نجيب بما أسماه “بل” بـ”مراسم السلطة” كإلقاء الخطابات وتقبيل الأطفال ووضع حجر الأساس للمشروعات في حين قام ناصر باتخاذ القرارات وإرسال الأوراق الرسمية، وكتب الأوامر لنجيب على الهامش.
من المقابلات المهمة أيضا تلك التي أجراها رئيس تحرير مجلة “تايم” مع جمال عبد الناصر عام 69، ومن أهم ما قاله فيها أنه يرفض الجلوس مع إسرائيل للحديث عن السلام “لو جلسنا الآن سنجلس كشعب مهزوم يستسلم. وهذا ما لن نفعله”، وفى إجابته عن مدى رضاه عن الأداء العسكري على خط القناة قال لو أن جزءا كبيرا من أرضك محتل فليس بالإمكان انتظار من يحن عليك بالانسحاب، وإن ضرباتنا المدفعية هي إيذان بالتحرير لأن من حقنا بل من واجبنا تحرير الأرض المحتلة. رفض نزع السلاح والاحتلال الدولي لسيناء، ووافق على الاعتراف بإسرائيل في حال التوصل إلى تسوية إنسانية “سمها إسرائيل. سمها ما تشاء. وسأعترف بها”. السؤال الأخير كان إذا نشبت حرب أخرى وانتصرتَ فيها ما الشروط التي ستفرضها على إسرائيل؟ وأجاب بأن هذا أشبه ببيع فروة الدب قبل قتله وهذا ما يصعب الحديث فيه.
احتلت المقالات الخاصة بعبد الناصر الجزء الأكبر من الكتاب، حللت شخصيته ورؤاه، مناوراته وإخفاقاته، وظل السؤال الأكبر الذي حيّر كل الكتاب هو: كيف كان كل إخفاق يجعله أكبر في قلوب شعبه؟!
(*) “ما خفي، مصر بين فاروق وناصر في الصحافة الأميركية”، جمع مادته وقدم له أسامة حمدي، أستاذ أمراض الباطنة والسكر في جامعة هارفرد، وترجمه مصطفى عباس، وصدر عن دار العين للنشر.
المصدر: المدن