الوجه غير المرئي للهزيمة السورية

حازم نهار

لا تكون الهزائم التي تمنى بها الشعوب شيئًا مدمرًا على طول الخط، بل قد تكون فرصة لحياة أخرى مغايرة كليًا، ودافعًا لنهضة كبيرة، لكن هذا الانتقال من الهزيمة إلى التقدم مشروط دائمًا بمجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية، الخارجية والداخلية. وإذا كانت الأحوال الموضوعية والخارجية في لحظة ما تشير إلى استحالة أن تستطيع الذات (نحن) إنجاز شيء كبير، فإن قراءة التاريخ تخبرنا أن هذا العجز ليس حتميًا، وقد تتحول الذات إلى فاعل رئيس في الداخل، وإلى رقم مهم ومؤثر في العوامل الخارجية.

بعد هزيمة حزيران/ يونيو 1967، ذهب عبد الناصر في زيارة إلى الاتحاد السوفياتي في تموز/ يوليو 1968، وكانت زيارة حاسمة من حيث أهميتها في وضع النقاط على الحروف بشأن العلاقة مع الاتحاد السوفياتي، وبناء تحالف متين في مواجهة إسرائيل وأميركا آنذاك، إذ طالب السوفييت بدعم سياسي وعسكري يساعد مصر في استعادة أرضها التي احتلتها إسرائيل، ويعيد ثقة العرب بأنفسهم بعد الهزيمة، تلك الثقة التي بُنيت على الوهم قبل حرب 1967، لتأتي صاعقة الهزيمة وتبدِّدها؛ دولة صغيرة مثل إسرائيل استطاعت خلال ستة أيام احتلال أراضٍ عربية تتبع دولًا ثلاث، الضفة الغربية والجولان وغزة وشبه جزيرة سيناء، بمساحة تعادل ثلاثة أضعاف مساحة إسرائيل قبل الحرب.

شارك كثيرون في اللقاءات بين الجانبين المصري والسوفياتي؛ عن الجانب المصري عبد الناصر وعبد المنعم رياض رئيس أركان الجيش المصري بعد الهزيمة، وعن الجانب السوفياتي بريجنيف، رئيس هيئة الرئاسة لمجلس السوفيات الأعلى، وغريتشكو، وزير الدفاع السوفياتي، وكوسيغين الذي أدى دورًا بارزًا على مستوى السياسة الخارجية للاتحاد السوفياتي. وفي اللقاءات هذه ضغط الروس كثيرًا على عبد الناصر للسير في طريق الحل السلمي، وتحدث عبد الناصر عن انسداد آفاق الحل السلمي، لكن من أجل إثبات صدقية توجهه نحو السلام، ترك عبد الناصر للروس التفاوض مع الأميركان للوصول إلى حل سلمي، شريطة ألا يطلبوا منه التنازل عن الأرض أو عن أي حق.

بعد عدد من اللقاءات، جاء عبد المنعم رياض إلى عبد الناصر، وقال له -بحسب ما يروي محمد حسنين هيكل في أحد لقاءاته: سيادة الرئيس أريد أن أقول لك شيئًا.. أن أقول لك شيئًا من قلبي.. أرجوك لا تقبل أيَّ حل سلمي. استغرب عبد الناصر، وقال له لماذا يا عبد المنعم؟ لو أنه فرصة لحل سلمي مشرف، وأنا عمومًا لا أجد أمامي هذا الحل، ما المانع في حال استطعت عبر الحل السلمي تحقيق ما نريده بالحرب، ووفرنا التكاليف الفادحة التي ستترتب على الحرب، أنا أريد توفير أي نقطة دم … إلخ.

تابع عبد المنعم رياض: أرجوك، من أجل الشباب، ومن أجل مستقبل هذا البلد، إذا مشينا في طريق الحل السلمي، حتى لو كان حلًا مشرفًا، سنجد في هذا البلد شعبًا متراخيًا… أنا أريد حلًا عسكريًا، حتى لو كان هناك حل سلمي، حتى لو أريقت دماء وكانت هناك ضحايا، لأنني أعتقد أن لا شيء سوف يبني هذا البلد، ولا شيء سوف يبني شبابه من جديد إلا إذا خاض هذا الشعب تجربة قتال حقيقية، أتمنى أن يدخل الشعب المصري في تجربة نار لكي يخرج من هذه النار وقد صلب معدنه.

لقد تعرف السوريون إلى مآسٍ كثيرة خلال العقد الفائت، وهُزمنا شرَّ هزيمة، لكن -في اعتقادي- يمكن تحويل الهزيمة إلى دافع ومحفِّز، وهذا له شروط عديدة؛ يأتي في طليعتها الاعتراف بالهزيمة أولًا. نحن نحتاج إلى الإقرار بهزيمتنا لكي نعرف كيف ننتصر، بل لنعرف معنى الانتصار وماهيته أساسًا. نحتاج إلى الإقرار بالهزيمة لنتعلم منها، ونتقن صناعة النصر بدلًا من إدماننا صناعة الهزيمة والفشل. إذا استطعنا الخروج من هزيمتنا سنكون أمام شعب آخر، لديه تجربته خصبة وغنية، يعرِّف نفسه بطريقة أخرى، وقادر على إنجاز الشيء الكثير. هذا هو الوجه غير المرئي للهزيمة.

تحدَّث هيكل في لقاء آخر مستذكرًا حالة المصريين بعد هزيمة حزيران/ يونيو، والمرحلة التي تلتها، ووصف عام 1969 بعام القلق بالنسبة إلى المصريين؛ حيث حرب الاستنزاف على الجبهة، والغارات الإسرائيلية أصبحت تصل إلى العمق المصري، وتطال مدنًا ومصانع مصرية، وثمة حركة سياسية دبلوماسية واسعة للوصول إلى حلّ سلمي بعد الحرب، لكن الأهم، كما يقول، هو ذلك الحوار الفكري الواسع الذي شارك فيه مثقفون من جميع التيارات حول الهزيمة وأسبابها وآليات مواجهتها.

على الرغم من الاعتقاد السائد بأنه عندما تتكلم المدافع يجب أن تخرس الألسنة، وأن الجدل الفكري بعد الهزيمة يبدو في نظر الكثيرين أنه بعيدٌ عن هموم الناس والمعركة الحقيقية، إلا أن ساحة الفكر والجدل والحوار تبقى أهم الساحات بعد أي هزيمة؛ لأنها تسمح لنا بأن نعي ما يجري، وأن نفكِّر بصورة عميقة في مشكلاتنا، ونغيّر في أدواتنا ووسائلنا وأدائنا. إنها الساحة التي يمكن أن تتشكل فيها ملامح المستقبل، لأن الحروب والهزائم مولِّدة للفكر والتفكير، لكنها ساحة تحتاج إلى الصبر وطرد الأوهام والاستغناء عن تلك الرؤى التي تهوِّن من مشكلاتنا وتقلِّل من شأن أخطائنا.

يتحدث سوريون كثيرون اليوم عن عددٍ من الأخطاء التي ارتُكبت خلال العقد الفائت، بعد أن أصبحت هذه الأخيرة واقعًا فاقعًا ومعروفًا. في الحقيقة لا توجد فضيلة في معرفة الخطأ بعد وقوعه، فكيف إذا كانت الأخطاء المرتكبة واضحة جدًا في وقت ارتكابها أصلًا لكل ذي بصيرة؟! على العموم ما يُطلق عليه اليوم أخطاء هو في الحقيقة أبعد من ذلك، إنها تدلّ، في الحدّ الأدنى، على طريقة تفكير خاطئة أصلًا، وتشير إلى نمط تفكير غير عقلاني، بسيط ومسطَّح. وعمومًا لا يغيب عن البال أن حديث البعض عن “أخطاء” فحسب يسمح لهم بالاستمرار في وجودهم ومواقعهم في الساحة من دون ضريبة كبيرة، إنما بالعقلية ذاتها المنتِجة للأخطاء دائمًا.

هناك موجة تفاؤل كبيرة يصدرها بعض من ساهموا فعليًا في إنتاج هزيمتنا أو أوهام الانتصار. هناك موجة تفاؤل استنادًا إلى أزمة الطرف الآخر، أي النظام السوري، وليس انطلاقًا من الإنتاج الذاتي، كمن يبني أمجاده اعتمادًا على عيوب الآخر ومشكلاته. هذا الخطاب مشابه تمامًا لخطاب النظام السوري نفسه الذي أعلن في مرات عديدة انتصاره، وفي الجوهر ينتميان إلى البنية الفكرية نفسها وإن اختلفا شكلًا وموقعًا وموقفًا. شعار “الثورة مستمرة” يماثل شعار “خلصت” أو “الانتصار” اليوم. طرفان مهزومان على الصعد كافة، وما زالا يعاندان الاعتراف بحقائق الواقع.

اليوم، لا قيمة لانتصار النظام السوري أو انتصار الثورة بالمعاني السائدة، لأن سورية على حافة الهاوية، ولأن السوريين، داخلًا وخارجًا، ليسوا بخير أبدًا، ولا وجود لخير حقيقي في الأفق القريب على أقل تقدير. أصلًا، هناك فهم ضيق ومغلوط لمعنى الانتصار نفسه. تُعلِّمنا حرب الاستنزاف بين 1967 و1970 كثيرًا؛ شكلت هذه الحرب بالنسبة إلى مصر المهزومة القاعدة الصلبة التأسيسية التي خلقت من الفشل العسكري الذريع في حرب 1967، احتمالات متعدِّدة لردٍّ ممكنٍ على ذلك الفشل، وأنتجت نصرًا نسبيًا في عام 1973.

جبهتنا الثقافية تكاد تكون فارغة، وهي أقرب إلى سوق الهال، كلٌّ ينادي ويرفع صوته لترويج بضاعته. لا يوجد حوار حقيقي أو جدال أو نقد أو تفكير نقدي. أصلًا لا توجد جبهة ثقافية. قد ينظر كثيرون إلى هذا الأمر، بناء الجبهة الثقافية، بوصفه عملًا فارغًا أو غير مهم في زمن الفقر والتشرد والرصاص، لكن العكس هو الصحيح؛ سنبقى فارغين إن لم ننتج الثقافة، وسنظل ننتج الأخطاء والأوهام دائمًا.

ما المقصود بالهزيمة والانتصار اليوم سوريًا؟ نحن مهزومون لأننا لم ننجح في السير خطوة في طريق التحول إلى شعب بالمعنى السياسي، ومهزومون أيضًا لأننا نفتقد إلى الآن القدرة على بناء الدولة الوطنية، الدولة التي من دونها سنكون مجموعة بائسة من البشر التائهين في القرن الواحد والعشرين. نحن لم ننتج إلى الآن إلا قوى وتشكيلات سياسية لا تزيد على كونها فقاعات، وبعضنا يحاول بما أوتي من قوة، إحياء الموتى من الأشخاص والقوى السياسية، وكأننا نقول في سرّنا نحن جيدون لكن الواقع كان أكبر منا.

للنصر النسبي في 6 أكتوبر 1973 مسميات كثيرة في الوعي المصري، لكن “يوم العبور” ظل أهمها تعبيرًا؛ كان العبور من الضفة الغربية لقناة السويس إلى ضفتها الشرقية عبورًا من ضفة اليأس إلى ضفة الأمل، من الهزيمة إلى النصر. لم يكن هذا العبور سهلًا أو مصادفة لفعل يائس، بل كان عملًا شجاعًا ومدروسًا، هو خليط من العزيمة والتصميم والإعداد الجيد وإعادة النظر في كل شيء. نحتاج، نحن السوريين، إلى روح حرب الاستنزاف، لعلها تدفعنا إلى التفكير في إعادة النظر في ثقافتنا وآلياتنا وأدواتنا، لنخطو أول خطوة، بعيدًا من اليأس، قريبًا من الأمل. النصر الذي يأتي مصادفة أو بسهولة لا يعلِّمنا ولا يترك أثرًا في فكرنا ووجداننا.

المصدر: المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى