نضج جيل كامل من السوريين على الشّتات والصراع غير المتكافئ، بين الشعب والسلطة العسكرية التي تحكم في بلدهم، فآخر ما يهمّ النظام سلامة الأراضي ووحدتها، كرامة المواطن وحريته. .. ومنذ نفض السوريون عن أكتافهم عبودية بيت الأسد، كنّا نقدّر، آنذاك، أن الحوار سيكون بين الدبابة والصرخات، وأن النداءات والشعارات سوف تردّ عليها الطائرات الحربية.
تشتّتّ الشارع، القادم أساساً من بنية اجتماعية متنوّعة ومعقّدة، حرص نظام الأسد على تقوية تفكّكها وزرع الفوارق الاجتماعية في مفهوم المواطنة بين أبناء الشعب الواحد، بداية من ترتيب الأرقام “الوطنية” بنماذج مفتاحية على البطاقة الشخصية للسوريين، وكتابة مكان قيد نفوسهم، وصولاً إلى الفرز والتصنيف المباشر، وفق المناطقية والطائفة، منذ مطلع ستينيات القرن الماضي، حيث تحمل كل منطقة في سورية، تقريباً، هوية طائفية، كان قد أمعن نظام حافظ الأسد في إبرازها حسب الموالاة والمعارضة، وتوزيع الامتيازات الاقتصادية اعتماداً على الطبقية الاجتماعية والولاء للنظام.
هل كان للبلاد أصلاً فرصة لتكون في بنية دولة مدنيّة، ودولة مؤسسات وقانون وعدالة؟ ربما. ولكن سورية لم تشهد بعد الاستقلال، أواخر أربعينيات القرن المنصرم، سوى بضع سنوات من الحرية والعمل السياسي، قبل أن يتداول الحكم فيها جنرالات الانقلابات ثم تجربة “الوحدة” مع مصر، والتي توّجت دكتاتورية حزب البعث داخل الجيش في سورية، بعد إقصاء كل الأحزاب السورية وحلّها بحسب شرط الرئيس الراحل جمال عبد الناصر من أجل “الجمهورية المتحدة”!
وطوال عقود، إذا استُثنيت تجربة الرئيس الراحل شكري القوتلي، لم تخرج سورية من البيت العسكري للحكم، وكلما كانت الولاءات الدولية والقبضة الحديدية لتلك الأنظمة أكثر عنفاً، قُدّمت لها الضمانات بالاستمرار لتبقى البلاد في تخلّف سياسي وفكري وثقافي وعلمي على مستوى المنطقة، مع حساب القرب الجغرافي لوجود الاحتلال الإسرائيلي على الحدود وتهديد وجوده بأي شكل.
لقد تبلورت في المخيلة فكرة أن “الجيش هو القائد والقائد هو الجيش”، منذ وعينا في المدارس. كان للتدجين الاجتماعي والحفاظ على القطيع دور أساسي في الأولويات “التربوية” خلال فترات الطفولة والمدارس والجامعات، كما فعلت الأنظمة الشمولية عبر التاريخ، إذا كُنتَ تريد القضاء على حرية مجتمع وسلب إرادة أفراده، عليك بتحويل المناهج التعليمية إلى منصّات لإدارة عقول الأطفال، ليكونوا قنابل موقوتة في خدمة القتل الذي تسميه الأنظمة “ولاءً”، إنما هو قتلٌ ذاتيٌّ لشخصية الإنسان، لحرية أفكاره، لمقدّراته ومهاراته وطموحاته.
وكان نظام الأسد الأكثر “براعة” في قتل السوريين، قبل ولادتهم حتّى، فدفع بهم إلى حروبه الداخلية ضد المعارضة، على اختلاف توجهها، وشيطن كل من تسوّل له نفسه التفكير خارج “منظومة البعث” وشعارها “إلى الأبد .. إلى الأبد يا حافظ الأسد”. ولن تكفي سنوات قليلة للقضاء على فكرة “الأبد” تلك. وتدرك مقاتلات جيش الأسد، الجوية، أنها وجدت لتردع كل أنواع الرفض الاجتماعي لسلطة الدكتاتور، فتزيل بسهولةٍ سلطة الأمر الواقع، الدموية، قرى ومدناً ومناطق عن الوجود، كما حدث في عقاب مدينة حماة في فبراير/ شباط 1982، بسبب تمرّدها وصدام حافظ الأسد مع جماعة الإخوان المسلمين.
كان أحد العاملين في التلفزيون السوري، زميل للكاتب، يردّد باستمرار “ما يتم تدميره الآن ليس سورية، إنما سورية الأسد”، قبل أن تخفيه مخابرات “الأمن السياسية” الأسدية، تحت الأرض بالفعل، كان الردّ الواضح على الثورة السورية “الأسد أو نحرق البلد” وقد تم تنفيذ الشعار بدقة، عمل عليه نظام الأسد عقودا، ونفذه في السنوات العشر الماضية.
في المقابل، حاول الشارع تنظيم صفوفه، بضعة أشهر. نشط الحراك الشعبي في كل مدن سورية، واستغربت سلطة الأسد من الانتفاضة، وردّت بمزيد من القتل، فكانت عسكرة الثورة، بداية للدفاع عن المظاهرات، ثم تحوّلت إلى مفهوم إسقاط المدن وطرد الموالين وعسكر الأسد. وليس المقام هنا الخوض في الفصائلية وطبيعة تلك التنظيمات العسكرية المحسوبة على الثورة، والتي كانت تدير المدن من دون دراية كافية، ولن تقارب المقالة نقدياً مدى فهم الأيديولوجيات ومدى تجربتها المتواضعة، في قيادة الحراك الشعبي، إنما سوف تقول إنها كانت فرصة ذهبية للنظام وحلفائه الدوليين لجرّ الناس إلى ملعبه: السلاح.
هل أدرك السوريون أن أغلب قطاعات الجيش وكل مخابراته هي من طائفة الطاغية؟ وأنه من المحال تحطيم ذلك كله ببضع بندقيات ودبابات؟ فيما يملك النظام، الجو والطائرات وعدداً من الأوراق السياسية والمعيشية، التي يحرّكها في الداخل والخارج، ليثبت أنه قادر على التدمير، وقبل كل شيء تدمير السوري أولاً، والتفاهم مع إسرائيل ثانياً ودائماً.
لاحقاً، جرّت حرب النظام ضد الشعب السوري، دولاً وجيوشاً، لتقتسم حصتها من الدعم، وتغيير موازين القوى واستغلال حالة التشقق الاجتماعي، والحاجة إلى أي سند خارجي مهما كان الثمن، فدخل الجميع من دون استثناء، كما نشهد اليوم، إلى “حربٍ إقليمية” أصبحنا مجرّد أدوات فيها أو بيادق! وحالت تلك “الحرب” دون الرغبة بالثورة على الطغيان إلى الرغبة بالتخلص من الاحتلالات والمليشيات الكثيرة، المقيمة على قطاعاتٍ جغرافيةٍ منفصلة من “سورية الأسد”.
خلاصة القول إن السوريين في الخارج الآن، قد يحملون في عقولهم فكرة أن العودة إلى بلادهم باتت شبه مستحيلة، وأن ثمن الحرية كان الصراخ بداية ضد الظلم، ثم تحوّل إلى فرصةٍ اجتماعيةٍ للبحث عن الذات والحقوق، كانت ثورةً من أجل الذات السورية المكتومة عقودا طويلة، وها هي اليوم بعد عقد من الثورة تقول كلمتها، وترفض الطغيان، وتبذل الجهود والأرواح من أجل الخلاص السوري – السوري، وليس إلّاه سبيلاً، على الرغم من الجيوش المتقاتلة على أرضنا وضد وجودنا.
وفي الداخل، يعاني ملايين الناس من أمر الخضوع لسلطة القوي والإفقار المعيشي وتحميل الشارع أعباء العقوبات الدولية على النظام. وبالتالي، توكيل جمهور الموالين والرماديين ومن سواه، بالرد على الثورة السورية ومن تبنّاها وقاتل من أجلها من دون أجندات خارجية، ليعتبروه مسؤولاً عما وصلوا إليه من غلاء وإذلال، على الرغم من هدوء وتيرة المعارك في قطاعات كبيرة من البلاد!
وعلى كلا الجانبين، في الداخل والخارج، يغيب الوعي السياسي وإدراك الحقائق لدى شريحة كبيرة من السوريين، سواءً في مناطق سيطرة الأكراد أو مناطق سيطرة المعارضة أو مناطق سيطرة النظام، ويمكن أن يضاف هنا إنها مناطق تحت وصاية دولية لكل حليفٍ يدعم قطاعاته على الأرض، والسبب الأساسي لذاك الغياب مرور عقود على الطغيان وتجذّره بقوى في بنية المجتمع السوري. وإذ يعوّل السوريون من كل بقاع الأرض إنما يعوّلون على الوعي والتفكر الذي منحتهم إياه هذه الثورة، وأعطتهم ثقته تلك الأرواح والدماء المبذولة من أجل حرية البلاد وخلاصها من هذا الطغيان العميل.
المصدر: العربي الجديد