لطالما كان الدكتور جمال الأتاسي في أبحاثه ومقالاته يكرر السؤال: ما العمل؟؟؟ بعد أن يعرض واقع حال أمتنا وما آلت إليه أوضاع أوطاننا، وهذا الارتكاس الذي حدث بالثورة الناصرية، وما أحدثه غياب عبد الناصر من فراغ كبير نفذت عبره قوى الرجعية والانفصال، وتربعت النظم الاستبدادية فوق ظهر مواطنيها، وأحكمت قبضتها بالتعاون مع قوى الفساد والإفساد.. كان السؤال المحوري الذي حاول الاجابة عليه لكنه بقي يردده هو:
ما العمل؟؟ وكيف؟؟؟ …
سؤال كان يبحث من ورائه ويدفع لتحريض قوى الأمة للحوار والبحث من أجل إنجاز التغيير الديمقراطي.
سؤال حتى نجيب عليه، علينا أولًا أن نغوص في فكر جمال الأتاسي، ونتوقف عند الملامح العامة لفكره ورؤيته للتغيير، وما كان يريده ويحلم به جمال الأتاسي في إنجاز مشروع النهضة لأمتنا العربية، مقدمة لابد منها للانطلاق إلى مستقبل أفضل، لأمة تستحق أن يكون لها بين الأمم مكانًا تحت الشمس.
ويمكن إجمال الملامح العامة في فكر جمال الأتاسي ورؤيته للتغيير بما يأتي:
1- كان جمال الأتاسي يرى أن الفكر الناصري.. هو فكر جدلي.. فكر يصل للكلية التي تتجاوز الأجزاء في منظور واحد.. فكر يبحث عن الكلية التي تربط الأجزاء في قواسم مشتركة.. في تفاعل مع التيارات الفكرية ليس بطريقة ميكانيكية، وإنما بعملية تفاعلية تجاوزية تصب في نهج استراتيجي ومسار تاريخي وفق منهجية ربط الفكر بحركة الواقع وهو يتغير، والفعل في هذا الواقع ومواجهة صراعاته، في موقف ثوري يتطلع دائما للجدوى والهدف.
2- ارتكز فكر جمال الأتاسي ورؤيته السياسية على قاعدة (النقد المزدوج طريق للاستيعاب)، نقد التجربة الناصرية بما لها وعليها (الإطلالة على التجربة الناصرية)، ونقد ذاتي للقوى السياسية، والقوى الناصرية التي حملت لواء الناصرية وموقعها ودورها وقصورها وإشكالاتها. وكان يرى أن لا سبيل للتطلع إلى المستقبل إلا بهذا النقد المزدوج الذي يستوعب الثابت والمتغير، مقدمة لإنجاز المشروع العربي النهضوي.
3- ركز جمال الأتاسي كثيرًا على إشكالية الافتراق بين القواعد الشعبية وبين النخب السياسية، وتأكيده على أن لا سبيل لرتق هذا الخلل في انفصال النخبة عن قواعدها الشعبية إلا بوجود طليعة ترتبط عضويًا بالكتلة الشعبية العريضة، وتمتلك القدرة على فهمها وقيادتها.
4- وفي نقده للثورة الناصرية وتجربتها، اعتبر أن غياب الوسيط (الحزب أو التنظيم الثوري) بين قيادة عبد الناصر، وبين جموع الجماهير الشعبية، قد أدى الى عدم التمييز بين من آمن وعمل من أجل الثورة، وبين من ركب موجتها مدعيًا أنه الحامل لفكرها، مما أدى إلى تعدد الدكاكين الناصرية وتصادمها وتشتتها.
5- وكان يرى عدم الاستكانة للواقع مهما كانت رداءته وانحطاطه، ومهما تكالبت قوى الردة والقوى الرجعية والانفصالية وقوى التدخل الخارجي، ولا يجوز في الأحداث الكبرى (جريمة الانفصال) البقاء على حالة ” الصمت موقف “، فالصمت في هذه الحالة (بعد الانفصال) اعتراف وقبول وتأييد لهذا الواقع وتثبيته.
6- وكان يرى أنه لا يمكن سد فراغ غياب عبد الناصر إلا بقيادة (وليس فردًا) قوى طليعية تعمل من أجل رؤية وهدف، وتقود عملية التنظيم والتغيير، وأن التغيير الثوري لا يتحقق بإصلاحات شكلية في الواقع العربي، ومقدمة أي تغيير يكون بتواصل جيل الثورة مع الجيل الجديد، ونقل تجربته ومعاناته له، وإعطاء هذا الجيل الجديد الفرصة والفسحة والمساحة ليعبر عن نفسه لإبداع الحلول الواقعية المناسبة، وتمليكه القدرة على تغييره.
7- كان جمال الأتاسي عَلماني التفكير، وفي رؤيته لعبد الناصر كان يعتبره عَلمانيًا، وكان لا يرى في العَلمانية الإلحاد أو اللا دين. ويرى في العَلمانية الدولة الديمقراطية، دولة كل المواطنين، ولكل الأمة على اختلاف تياراتها الايديولوجية ومذاهبها ومعتقداتها الدينية، أي القبول بحقيقة التعدد في الأديان والتيارات والأفكار، ووجود الصراع وعدم امتلاك الحقيقة المطلقة في إدارة الأمة/ الدولة. ويرى أن عبد الناصر حينما وقف ضد المذهبية أو مذهبة الدولة، وتمسك بالدولة العصرية، دولة المواطنة فإنه بذلك – ولو لم يصرح – كان عَلمانيًا، ولأن مصطلح العَلمانية يثير الكثير من الالتباسات، فإن جمال الأتاسي كان يركز دائمًا على تعبير ” عدم المذهبة ” لتأكيد الفهم للمسألة الديمقراطية، والدولة الديمقراطية العصرية.
8- وكان يرى في الديمقراطية نظام حكم، وطريق للخلاص من النظم الشمولية، والاستبداد السياسي المملوكي، إنه طريق لإرساء قواعد التداول السلمي للسلطة، وتسيد حقوق المواطنة والعدالة، وهو طريق أنجزته البشرية ولا تختص به أو تصلح له أمة أو دولة دون غيرها. إنه طريق للخروج من التفتت والانقسام والتخلف والعجز وصنع حياة كريمة في ظل دولة الحق والقانون، ومجتمعات مدنية تسوسها روح المواطنية والمساواة، وقيم الحرية وحقوق الإنسان، والتجاوب مع الحداثة وروح العصر.
9- كان يرى أن وحدة العمل الوطني والقومي منهج استراتيجي للنضال الوطني وأيضًا للنضال القومي. وكان جمال الأتاسي أحد مؤسسي وحدة القوى السياسية عبر الجبهات والتجمعات والإطارات الوطنية، والتحالفات والمؤتمرات القومية (المؤتمر القومي، المؤتمر القومي الإسلامي، ووحدة القوى الناصرية … الخ). وعمل بدأب وصبر على تشكيل أوسع تيار وطني في مواجهة نظام الاستبداد الشمولي وتغييره بالوسائل السلمية، من أجل فرض تحقيق الانتقال السياسي إلى الدولة المدنية الديمقراطية التي ترسي دعائم حكم القانون والمواطنة المتساوية لجميع السوريين.
10-ويرى أيضًا أن تلك الكيانات القطرية القائمة على الاستبداد السياسي والمتصادمة مع النهج الديمقراطي ببعده القومي قد فشلت في درء المخاطر التي تجتاحها لتصل الى أنها باتت مهددة حتى في استمرار كياناتها القطرية. وإن ولادة حزب وطني قومي ديمقراطي عصري داخل أوطانها، يتأسس على مبادئ قومية برؤية جديدة، ومنهاج يقوم على قراءة جديدة للواقع، وبلورة جديدة لأساليب العمل، يقوم على برنامج تغييري، يطرح رؤيته للتغيير الوطني الديمقراطي في كل ساحة من ساحات الوطن العربي وصولًا إلى الوحدة القومية.
إن التأسيس لحزب وطني قومي متجذر في ساحته الوطنية، وسط جموع الشباب، يدفع بالعمل التنظيمي، ويؤثر في عملية التغيير للبنى الفكرية والسياسية والاجتماعية، سيكون إحدى روافع الوصول للحزب القومي على مستوى الأمة. فالعاجزون على مستوى الوطن، في تأسيس حزب وطني قومي عصري قادر على إنجاز التغيير في ساحتهم، بالتأكيد سيكونون عاجزين عن إنجاز الحزب القومي الفاعل على مستوى الأمة كلها.
11- وكان يرى في مواجهة الأنظمة الاستبدادية باعتماد رؤية (غرامشي) في استراتيجية ” حرب المواقع ” في العمل السياسي، بالتقدم إلى المواقع المختلفة في الهيمنة السلطوية، تبدأ من حيث الأضعف ثم إلى حيث الأقوى، إنها خلع للهيمنة باحتلال المواقع واحداً بعد آخر بالتوجه العام أولاً إلى الجماهير، وأن تأخذ القوى السياسية الثورية مواقعها في قلب القوى الاجتماعية وفئات المجتمع المتعددة، وتنهض بها ومن خلالها كل القوى السياسية، و تدخل في توجهات كل وطني وديمقراطي، مقدمة لاستكشاف الطريق إلى حركة الجماهير وتحريضها وبناء تلاحمها الوطني والنهوض بوعيها السياسي، والعودة بها إلى ساحات النضال ككتلة تاريخية فاعلة .
12- ويؤكد جمال الأتاسي أخيرًا، على أن النهضة هي رؤيةً وفعل، رؤية مستقبل نُحيله حاضراً إذ نقوله، وفعل يحقق هذه الرؤية.. وهكذا تصبح الثقافة رسالة (وبتعبيرنا نقول سياسة وإرادة تغيير) “.. ويؤكد على دور المثقف العضوي ويصفه بأنه يندرج في ” تلك الفئة من المثقفين التي تميزت بموقفها المعبر عن ضمير الشعب ومعاناة الأمة، تلك الفئة التي يمكن أن تشكل النواة الصلبة لعمل وحدوي منتج، لتنتقل بوعي قضية الأمة وأزمتها من شكله المضمر في الوجدان الشعبي إلى الشعور الجمعي، حيث يأخذ شكلاً محدد المعالم. ولتعطي من جديد مفهومها للأمة ووحدة الأمة، وما تحمله من معان ومعايير ومقومات، ومن أهداف مستقبلية، وتضع الأمة على طريق تجدد حضاري ونهضة.