شهد الوسط الديني في العالم العربي انقساماً حادّاً حيال ثورات الربيع العربي، بين مؤيد لها في مواجهة الأنظمة التسلطية، ومناهض لها داعم للأنظمة الاستبدادية. وفي سورية، بدت هذه الصيغة أكثر حدّية ووضوحاً، مقارنة بالدول العربية الأخرى، بسبب ضخامة الصدع الذي أحدثته الثورة في المجتمع، فظهر فريقان دينيان متناقضان في مواقفهما، وإن انطلقا من المرجعية الدينية نفسها لتبرير مواقفهما: فريق اعتبر الخروج على الحاكم منافياً للشريعة، لأنّه سيقود إلى الفتنة، والفتنة في المنظومة العقدية الإسلامية أشدّ من القتل. وقد وجد هذا الفريق في النصوص الشرعية والتقليد السنّي سنداً نظرياً وتاريخياً لرفض الثورة على الحاكم، إلا في حالة واحدة، وهي إذا أعلن الكفر المباح. واعتبر الفريق الآخر الثورات عملاً مشروعاً من الناحية الدينية، وأنّ الحكام قد خرجوا عن الشرع بسبب القتل والإجرام والفساد والانحلال الخلقي في الدولة والمجتمع. واعتبر هذا الفريق أنّ الفتنة التي ستحدث نتيجة الثورة ثمن يجب أن يُدفع لتحقيق العدل والمساواة والمبادئ العليا للشريعة. وينظر كلا الفريقان إلى الشريعة باعتبارها حكماً معيارياً متعالياً على الزمان والمكان، أي إنّ الشريعة، بما تتضمنه من أحكام ومواقف، تصحّ لكلّ زمان ومكان.
مناسبة هذا القول، وفاة رئيس رابطة العلماء السوريين، العلّامة السوري الشيخ محمد علي الصابوني، الذي يتمتع بمكانة دينية مهمة، لجهة إنجازاته العلمية في تفسير القرآن (صفوة التفاسير، مختصر تفسير ابن كثير، مختصر تفسير الطبري، التبيان في علوم القرآن، روائع البيان في تفسير آيات الأحكام، قبس من نور القرآن)، وهو أحد أبرز العلماء، وأشهر المفسّرين والمصنفين في علم التفسير والحديث والقرآن. وقد أخذ العلم الشرعي في الأزهر بالقاهرة، ونال شهادة الدراسات العليا في القضاء الشرعي عام 1955، ليتفرّغ للتدريس بعد ذلك بسبع سنوات في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، وكلية التربية في جامعة الملك عبد العزيز في مكة.
أيد الشيخ الصابوني الثورة السورية، والخروج على الحاكم الظالم بشكل صريح منذ بدايتها، وظلّ وفيَّاً لقيم الإسلام في الكرامة والحرية والعدالة، في وقتٍ كان معظم الدعاة والمشايخ قد اتخذوا فيه مواقف معتدلة بداية الثورة، قبل أن يصعّدوا مواقفهم الداعمة للثورة، إثر العنف المفرط الذي استخدمه النظام ضد المتظاهرين السلميين. وهكذا، انقسم رجال الدين في سورية بين مستويين: الأول، تقليد “مرايا الأمراء” المخصص لنصح الحكام، وقد برز عدد من المشايخ ممن قدّموا النصح للنظام بداية الثورة، مع لهجة مستهجنة من سلوكه الأمني. مثال ذلك ما قاله الشيخ سارية الرفاعي في إحدى خطبه في أغسطس/ آب 2011: “اتقوا الله في هؤلاء الذين أساؤوا لكم بالتظاهر، ولكنّهم ليسوا عصابات مسلحة”. وبقي قسم من هذا التقليد محافظاً على النصح للحاكم. فيما اتجه آخرون، بعد مغادرة سورية، إلى تصعيد مواقفهم الدينية والمناداة بالخروج على النظام، ودعم الثورة، ومن هؤلاء الشيخان سارية وأسامة الرفاعي. التقليد الثاني “الأحكام السلطانية” المخصص لإدراك السياسي ضمن الإطار الديني، وقد انقسم هذا التقليد إلى تيارين: الأول، يعتبر الحفاظ على وحدة الأمة الهدف الأساسي، وأنّ إمارة الاستيلاء والتغلب على مساوئها حققت هذه الوحدة من خلال الكفاية التي تعني منع الفتنة، والشوكة التي تعني التصدي للعدو الخارجي.
وبخلاف هذا، لا يعتبر التيار الثاني، الذي نشأ خلال الثورة، الكفاية والشوكة كافيتين لمنع مقاومة الحكام الظالمين، فالأمر يتطلب تحقيق العدالة والمساواة وحكم القانون والحكم الشرعي لمنع مقاومتهم. وإلى هذا التيار الثاني، ينتمي الشيخ الصابوني الذي رفض، منذ بداية الثورة، الوقوع في إسار التقليد السنّي الذي يعتبر الخروج على الحاكم فتنة، ما دام حقق الكفاية والشوكة. ولذلك أضفى شرعية دينية على الثورة ومقاومة الحاكم الظالم. وقد أعلن صراحة أنّ بشار الأسد هو “مسيلمة الكذّاب” مع ما يتضمنه هذا النعت من سوء في الوعي الجمعي الديني عند المسلمين. وأعلن أنّ علماء الأمة أكّدوا وجوب الخروج عليه، بعدما استفحل طغيانه قتلاً للبشر.
بالنسبة إلى الصابوني وبعض علماء الدين، لا تدخل المقاومة السلمية (التظاهر) في باب الخروج على الحاكم، وإنّما هي من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وثمة أمثلة في التاريخ الإسلامي على ذلك، منها عزل عمر بن الخطاب سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة، بسبب شكاية أهل المدينة من أنّه لا يقسم بالسوية، ولا يعدل في الرعية، ولا يغزو في السرية. لكنّ اعتماد النظام السوري القتل بحق المتظاهرين السلميين أوجب ضرورة الخروج على الحاكم، ومقاومته بالعنف. وتكمن مهمة علماء الدين في إضفاء الشرعية الدينية على الاحتجاج والثورة، وكلّ داعية وعالم دين لا يفعل ذلك، ويناصر الحكام الظالمين، منافق ومذنب ومخالفٌ علماء الأمة. ولهذا السبب، اعتبر الصابوني أنّ الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي خرج على إجماع علماء الدين المسلمين، حين قرّر الوقوف إلى جانب النظام السوري ضد الثورة الشعبية.
المصدر: العربي الجديد