بعد أن وقعت تركيا وروسيا اتفاقية في موسكو للتهدئة في إدلب، في الخامس من آذار/مارس من العام الماضي، وذلك خلال لقاء الرئيسين التركي رجب طيب أردوغان ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، جرى الحديث بشكل مكثف بين وفود البلدين من أجل فتح معابر لعودة النازحين، وجرى تحديد 3 معابر تشمل المناطق المجاورة لإدلب، أو ما تبقى من المناطق التي تحت سيطرة المعارضة، وكانت معظم التوقعات تشير إلى إمكانية التوافق لإعادة النازحين والمهجرين، في ظل ضغوط تركية كبيرة، ولكن كانت العقبة الأساسية تعود إلى الضمانات المقدمة للعائدين، حيث كان المقترح الروسي هو تسويات أسوة بالتي جرت في غوطة دمشق الشرقية ومناطق جنوب البلاد وأرياف حمص وحماة، إلا أن الجانب التركي لم يكن ليقبل بتلك الضمانات التي لا ترضي النازحين ولا تأمن حياتهم، وفي تلك الفترة كانت لا تزال نقاط المراقبة منتشرة على حدود اتفاقية سوتشي وقادرة على توفير الأمن والضمانة للعائدين في حال تدعيمها.
هذه التوافقات من أجل فتح المعابر لم تكن المحاولات الروسية الأولى، بل كان هناك حديث في اجتماعات أستانة بنسخها السادسة والسابعة وما تلاها، من رغبة روسية لتطبيع الأوضاع من الناحية الاقتصادية والاجتماعية بين مناطق النظام والمعارضة، وهو ما سيؤدي بحسب وجهة النظر الروسية إلى عودة الحياة إلى طبيعتها من خلال عبور الناس، وحثهم على المصالحة مع النظام، وإنهاء وجود المعارضة عبر الترغيب بجذب الناس للعودة لمناطق سيطرة النظام، والاستفادة من الخدمات المتوفرة، والمقصود منها بالطبع توفير النظام لخدمات الأوراق الثبوتية التي يستغلها من أجل ابتزاز المواطنين السوريين، ويحرمهم من أبسط مقوماتهم، ولكن تلك المحاولات الروسية كانت واضحة بشكل كبير للمعارضة وللضامن التركي الذي كان بدأ بتهيئة وتهدئة الأوضاع في المناطق الآمنة، وتنفيذ المشروعات الخدمية وإعادة الإعمار، وبالطبع انعكاس ذلك على الأوضاع في المناطق الآمنة وإدلب من الناحية الخدمية والاقتصادية.
روسيا تواصل سعيها هذا حتى الآن، وأعيد طرح موضوع عودة النازحين والمهجرين لمناطقهم، فتارة يتهم الدول المجاورة والدول الغربية بتسييس عودتهم، وتارة يتهم الفصائل بقصف المعابر منعا لعبورهم، وكل ذلك لتغطية فشله في إقناع النازحين بالعودة، نظرا لأن النظام يواصل الفشل في تقديم حلول خدمية، وفي ظل تسخير مقدرات الدولة للحل العسكري وحسب، وكان من نتيجة ذلك انعكاس هذا التوجه على الأوضاع الاقتصادية، فضلا عن السلوك الذي لم يرضِ الدول الغربية، فاستمرت العقوبات السابقة وفرضت عقوبات جديدة، وكل ذلك فاقم الأوضاع الخدمية والاقتصادية لمناطق سيطرة النظام، وفي ظل السعي الروسي لشرعنة النظام مجددا وإعادة إحيائه، تهدف موسكو فضلا عن إعادة النازحين، إلى فتح المعابر للحركة التجارية ما ينعكس بشكل إيجابي على مناطق النظام، وتشكل أي عودة لأي نازح مكسبا من أجل إكساب النظام صوتا في الانتخابات الرئاسية التي دافع عنها بشدة المبعوث الروسي ألكسندر لافرنتييف في اجتماعات أستانة 15 الأخيرة في مدينة سوتشي الروسية.
كما أن روسيا عملت على طرح موضوع النفط في مؤتمرات مسار أستانة، وكذلك في اجتماع الدوحة، خاصة أن النظام حاليا يفشل في الحصول على أي شحنات نفطية من مناطق سيطرة قسد بسبب الخط الأحمر الأميركي، ومناطق المعارضة تتمتع بتوفر المشتقات النفطية وبأسعار تعتبر مقبولة، في حين مناطق النظام تعيش أزمة خانقة وارتفاعا في الأسعار، وهو ما سبب غضبا روسيا من هذا الواقع، وفي ظل تمنع موسكو عن قصف قوات قسد المحسوبة على أميركا، تستهدف قوى المعارضة وتستقوي عليها، وترغب من تركيا لعب دور في هذا الإطار وتضغط عليها، ولسان حالها كيف يمكن أن تتمتع مناطق المعارضة ومناطق سيطرة قسد بتوفر المستلزمات الحياتية وأهمها النفط ويحرم النظام منها.
وكالة الأناضول التركية الرسمية، أكدت بالاستناد لمصادر تركية صحة الطرح الروسي قبل أكثر من عام، وأنه بالفعل هناك مطالب جديدة لا تزال قيد التفاوض بين الطرفين، وتركيا ترفض بالطبع فتح المعابر بهذه الطريقة، لأنها أساسا لا تأمن على المواطنين في حال عودتهم، ولا ترغب بإعادة شرعية النظام بل تفضل الضغط عليه للتقدم أكثر في الحل السياسي، ويكتسب الموقف التركي دعما غربيا وأميركيا، خاصة أن الولايات المتحدة تفرض عقوبات على النظام وفق قانون قيصر، ولن تكون هناك موافقة تركية طالما أن هناك خروقات وعدم ضبط للنظام ولقوات قسد بالاتفاقيات الموقعة وقواعد التهدئة، وانعكاس الأمن على الأرض، وبالتالي يمكن القول إن تركيا تربط موافقتها على فتح المعابر بتحقيق استقرار على الأرض ومكاسب تنعكس على واقع المناطق المحررة، وهي مكاسب اقتصادية وعسكرية وسياسية، وموقفها مدعوم غربيا وحتى عربيا.
وإزاء الوضع الحالي، تتوجه أنظار السوريين إلى تطورات هذا الملف أيضا على اعتبار أن موسكو في حال عدم حصولها على ما تريد تعمل على التصعيد ميدانيا، خاصة أن مجلس الأمن سيصوت بعد 3 أشهر على موضوع تمديد توصيل المساعدات إلى مناطق سوريا عبر معبر باب الهوى، وهنا أمام موسكو خياران في هذا الملف، إما التصعيد الميداني عبر مزيد من القصف واستهداف المناطق الحيوية والبنية التحتية، وقصف مناطق المعارضة وصولا إلى المناطق القريبة من معبر باب الهوى، وقصف الشاحنات، وأيضا التصعيد في جبهة عين عيسى للضغط على الجانب التركي، وإما التصويت بالفيتو أمام تمرير قرار التمديد لتوصيل المساعدات عبر معبر باب الهوى، والمقايضة على التمديد بفتح المعابر، وفي حال رجحت موسكو التصعيد الميداني فإن الأوضاع ربما تتأزم بمواجهة مع الجانب التركي، وربما مع الجانب الأميركي أيضا، الذي لديه موقف حازم في هذا الملف.
بالمقابل فإن تركيا تحدثت بوضوح أن أي تصعيد ميداني سيقابله استهداف مؤلم لقوات النظام والميليشيات الداعمة له، لأن الواقع الميداني على الأرض مختلف حاليا من ناحية حجم القوات العسكرية والوجود النوعي للقوات التركية، وتدرك روسيا حجم التهديدات التركية حيث استهدفت بشكل مؤثر قوات النظام قبل أكثر من عام، كما أن تركيا وعلى غير المعتاد في عمليات التصعيد السابقة، صرحت بشكل فوري عن الاستهدافات الحاصلة عبر وزارة الدفاع، والتهديد بالرد عليها، وهذا ما يؤكد أن الخروقات والتصعيد هذه المرة مختلفة عن المرات السابقة، ولن تتمكن موسكو من التصعيد في إدلب بسهولة، وبالتالي ربما يتم اللجوء للتصعيد شرق الفرات.
أما الظروف التي من الممكن أن تدفع أنقرة للموافقة على فتح المعابر، فهي المكاسب الأمنية التي يمكن تحقيقها في المناطق الآمنة، وبالدرجة الأولى مناطق درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام وإدلب، خاصة أن العناصر التابعة لقوات قسد تستغل عدم تطبيق روسيا للتوافقات مع تركيا وضبط هذه العناصر والمناطق، للتسلسل إلى المناطق الآمنة، وتنفيذ عمليات إرهابية تستهدف المدنيين، حيث إن تركيا تصر على ضبط هذه العناصر ومنع تسللها، فضلا عن مكاسب أخرى اقتصادية وسياسية تتعلق بالحل السياسي، والتهدئة الشاملة التي تمنع أي خروقات، وكل ما سبق سيؤدي بطبيعة الحال إلى هدوء الأوضاع في البلاد تمهيدا للانتقال السياسي، ولذلك فإن أنقرة سترفض فتح هذه المعابر إلا بالشروط السابقة، وبمقابل ذلك فإن استمرار الخروقات واستهداف البنية التحتية وقوى المعارضة المحسوبة على أنقرة، سيقابلها رد تركي كبير ومؤلم على قوات النظام، باستهداف واسع النطاق وبشكل ساحق، ولكن تركيا عملت بشكل دائم على تفضيل الحلول الدبلوماسية دون اللجوء للتصعيد، على عكس الجانب الروسي الذي يجنح دائما للتصعيد قبيل الدبلوماسية.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا