منذ بداية العام الجديد وحتى الآن احتل مشروع تاسيس ( مجلس عسكري ) بقيادة العميد المنشق مناف طلاس حيزا واسعا من تحليلات وتعليقات الكتاب والمدونين السوريين في الصحف والمحطات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي ، وما زال يحتل المرتبة الأولى في اهتمام الجميع ، عسكريين منشقين ، وناشطين سياسيين ، وكتاب واكاديميين ، ومما بينهما من متابعين .. إلخ . وفي ثنايا كافة التحليلات والتعليقات معلومات تفتقر للصدقية والدقة ، وأقرب للشائعات والتكهنات والتأويلات ، لذلك تتضارب فيها التصورات والآراء تضاربا حادا من النقيض الى النقيض .
في هذا الجو الفوضوي العاصف يظل بطل الحكاية (الجنرال مناف طلاس) بأعلى درجات الصمت . وهناك من المعلومات ما يؤكد أن أكبر الفضائيات العالمية تلاحقه لتتصيد منه ولو كلمة واحدة ، دون جدوى ، ويعزى ذلك الى اتفاق صارم بينه وبين العديد من الدول . إلا إن هذا الصمت الغامض يفسر لصالح المهمة المنوطة به ، فهو يدع الجميع يفرغون ما في عقولهم ومشاعرهم ، ليقوم هو بتحليلها ، ورصد اتجاهات الرأي العام السوري . هي طريقة مبتكرة لسبر أغوار النفوس والأفكار ، وسط حالة سورية ، يستحيل التعاطي معها بطريقة أخرى .
تأييد من معارضين وموالين :
يستطيع المحلل المتخصص المتابع لشظايا الانفجار المعلوماتي ، حول المقترح المطروح ، منذ قرابة الثلاثة شهور استنتاج تأييد كبير وقوي لمقترح ( المجلس العسكري ) وللرجل الصامت “المتهم” بها ، وخاصة في أوساط العسكريين المنشقين وغير المنشقين ، على عكس قادة الفصائل المسلحة ” الولائية ” أي الموالية لتركيا . ويرتفع التأييد بين المهجرين الذين يعيشون خارج مدنهم وقراهم في مدن ومعسكرات من قماش الخيام . هؤلاء الذين يريدون حلولا تنهي موتهم البطيء غير المعترف به رسميا . وحتى في أوساط الناشطين السياسيين والمثقفين والحقوقيين ، نادرا ما تجد موقفا رافضا أو مناهضا بقوة ، أو مشككا . هناك فقط من يقول : نريد مزيدا من المعطيات والتفسيرات والردود على التساؤلات لنبني عليها موقفا نهائيا .
إن هذه المواقف – في محصلتها العامة – تعكس حالة غير مسبوقة في الساحة السورية منذ بداية الثورة عام 2011 ، إذ تبدو الفكرة (قطعة مغناطيس جاذبة) للسوريين المعادين للنظام ، وللموالين له في آن واحد . وتبدو في نظر قطاع واسع (نقطة توافق) يمكن البناء عليها . وفي المعلومات المتداولة أن هناك مئات من ضباط النظام ، علويين وسنة ودروزا وضعوا أنفسهم تحت تصرف المجلس العسكري في حال إنشائه ، مقابل أكثرية ساحقة من الضباط المنشقين . وهناك معلومات عن لقاءات ميدانية حصلت في الداخل بين ممثلين عن الطرفين لمناقشة ما يمكن عمله لإنقاذ البلد من الحالة الكارثية والمأساوية الاقتصادية والاجتماعية التي بلغها السوريون جميعا ، والتي شارفت حافة المجاعة والموت ، يعكسها تحول أجهزة الاستخبارات ، والميلشيات التي شكلها زبائن النظام في العشرية الدموية عصابات تحترف النهب والسرقة لإشباع جشعها ، وإقدام مواطنين على بيع أطفاهم لعجزهم عن إطعامهم ، وغير ذلك من مظاهر ، تؤشر لسقوط الدولة وانهيارها الكامل على رؤوس سكانها وحماتها معا ، واختلاط الحابل بالنابل . هذا فضلا عن فقدان السيادة والكرامة ، وغياب مؤسسات الدولة بسبب وقوعها بين حجري الرحى الأجنبية الروسية والايرانية اللتين تقتسمان الثروة والسلطة والسيادة بينهما ، حتى أصبح السوريون غرباء أذلاء ومهانين في بلدهم ، بما فيهم المسؤولين والعسكريين الكبار .
ينظر الجميع ، في الداخل والخارج ، المننشقون والموالون ، السياسيون والعسكريون والمثقفون ، الى (المجلس العسكري) كخشبة الخلاص ، أو نقطة انطلاق في برنامج انقاذ سورية قبل أن تضيع وتتفتت .
الأولوية لإنقاذ سورية :
الذين يؤمنون بالثورة ، يقرون أن ( الثورة الشعبية المدنية السلمية ) قد سرقت وخطفت منذ عام 2012 من قبل ميليشيات عسكرية سلفية وارهابية لا تمثل الشعب السوري ( النصرة وداعش وحزب التحرير ، وجماعة الإخوان وعشرات الفصائل المشابهة ) . والموالون يقرون أن النظام قد جرهم الى خيار الحرب الدموية ، ويقر الطرفان أن عليهما وقف الجدل حول من يتحمل المسؤولية الآن ، والانتقال فورا لعلاج الحالة الخطيرة ، لسورية النازفة والمثخنة بالجراح ، والخروج من حلقة السجال والجدال عمن يتحمل المسؤولية . لا بد من العمل كفريق طبي يريد إنقاذ المصاب من الموت والهلاك ، بصرف النظر عمن سبب الإصابة ، ومن يتحمل المسؤولية .
في نظر الضباط المساندين لفكرة المجلس فإن سورية الآن ( دولة فاشلة ) تتقاسم السلطة الفعلية على أرضها : ميليشيات كثيرة ، أهمها ميليشيات وبقايا قوات النظام في دمشق وحمص وحماة ، وبعض النقاط في شرق وشمال البلاد ، بينما الغلبة لقوات قسد في الشمال وقوات النصرة في ادلب ، وفصائل موالية لتركية في بعض مدن الشمال ، كعفرين واعزاز ومنبج وجرابلس .. إلخ . وميليشيات ايرانية في الجنوب والشرق وحلب والساحل والوسط ، وميليشيات علوية طائفية في الغرب والساحل ودمشق . وهكذا فلا سيطرة ولا سلطة للدولة ولا للنظام على غالبية التراب السوري ، وإذا ما استمر الوضع على هذا النحو فإن الانتشار العسكري الموصوف سيتكرس ، ويجعل سورية عبارة عن إمارات وولايات منفصلة يحكمها أمراء حرب تابعون وموالون لدول أجنبية ، لن تتردد في ضم أجزاء منها لها ، أو دعم انفصالها .
في نظر أصحاب الفكرة التي يجري انضاجها على نار هادئة لتتحول (مبادرة) جدية أن كل شيء ينبغي أن يبدأ من نقطة ضبط الأمن في البلاد تحت سلطة المجلس العسكري ، أي : وقف القتال ، ضبط الأمن في كل أنحاء البلد ، حل الميليشيات ، جمع السلاح ، إخراج القوات الأجنبية . يتولى المجلس السلطة لفترة انتقالية . ثم يبدأ الاعداد لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بإشراف أممي وتعاون دولي ، يليها الانتقال الى سلطة مدنية ، ونظام جديد . وهناك يقين أن انهيار الدولة والنظام بدون جسم يحفظ الأمن سيخلق الفرصة للدخول في مرحلة جديدة من الحرب الأهلية ، وتصفية الحساب ، والانتقام ، نتيجة تراكم الجرائم والاحقاد التي أوقع الاسد كل الأطراف في أتونها ومستنقعها .
في هذا الصدد هناك كلام كثير عن إنشاء (مجلس مدني سياسي) رديف للمجلس العسكري مهمته اعداد الخطط لحشد القوى السياسية وتوحيدها على برنامج ، لإعادة إنهاض الدولة ، وإعادة بنائها ، وتطهيرها من الفساد ، واصلاح الأجهزة الادارية والحكومية ، وتهيئتها للانتقال الى نظام جديد مختلف جذريا عن السابق .. إلخ .
ما مصير بشار ..؟
أما إنهاء حكم (الأسد) ونزع السلطة منه ، فهو مهمة الدول الكبرى من خلال الاتفاق على حل معين تتوصل اليه الولايات المتحدة وروسيا ، وسيكون ممكنا عندما يتشكل المجلس العسكري كنواة وقيادة لجيش جديد يتفاهم عليه الجميع لضبط الأمن في البلاد والسيطرة على الارض باتفاق الجميع .
هناك قناعة في أوساط كثيرة أن خريطة الطريق التي رسمها قرار مجلس الأمن الدولي 2254 / 2015 ، غير قابلة للتطبيق . والتمسك بها إضاعة للوقت ، وجري وراء سراب . والبديل يكمن في ابتكار حلول وخريطة طريق سورية – سورية ، تنطلق من فكرة ( انقاذ سورية ) قبل الحديث عن العدالة .
ورغم التأييد الواسع للفكرة هناك مخاوف مشروعة من أن يتحول المجلس العسكري سلطة عسكرية جديدة ، أي ديكتاتورية عسكرية ، لا تختلف عن الأنظمة السابقة منذ ستين عاما على الأقل . وينقل عن مناف طلاس تطمينات قوية بأنه / وأنهم لا يتطلعون للحكم ، وكل هدفهم هو المساعدة في انقاذ البلاد وتحقيق الانتقال السلمي الى عهد جديد يلبي طموحات السوريين ، وإنهاء حالة الحرب الدموية العبثية المستمرة منذ عشر سنوات ، وحالة التدخل الأجنبي ، وحالة الدولة الفاشلة ، وتحقيق السلام الأهلي .
وعن المواقف الدولية إزاء هذه الأفكار والخطط ثمة شائعات ومعلومات بالجملة لا يمكن تأكيدها والتثبت منها إطلاقا . ومن بينها :
1 – أن الولايات المتحدة تدعم الانطلاق من فكرة المجلس العسكري ، بدليل أن قوات الادارة الكردية وقسد المدعومة أميركيا سارعت للاعلان عن ترحيبها بمبادرة المجلس العسكري برئاسة طلاس ، وتعهدت بوضع قواتها البالغة ( مائة الف مقاتل ) تحت سلطته .
2 – إن تركيا وعدت بالتعاون ايجابيا مع الفكرة ونظرت بايجابية لموقف أعدائها الاكراد منها أيضا كحل مقبول لكل الأطراف . ويقال إن الجنرال طلاس قد زار تركيا ، وأجرى محادثات مع مسؤولين كبار فيها ، كان الجانبان مرتاحين لنتائجها .
3- أما الضباط المنشقون ، فهم مع المقترح بصورة تقارب الاجماع .
4 – يقال إن 1600 ضابط في الداخل أعطوا تأييدهم بصورة أو أخرى للمجلس بقيادة طلاس الذي يعرفهم ويعرفونه منذ وقت طويل ، ولم تكن له مواقف عدائية تجاههم ، ولم يشارك في أي قمع أو قتل للمدنيين ، بل عمل على حماية المتظاهرين في دوما بداية الثورة وحاول اقناع بشار بالاستجابة لبعض مطالبهم على الأقل ، ولكن شقيقه ماهر أفشل المسعى بالتعاون مع قادة الاستخبارات .
5 – أما بالنسبة لروسيا فيقال إنها باتت مقتنعة و” مسلمة ” بأن الأسد لا يمكن إعادة تعويمه ، ولا يمكن أن يكون له دور في المرحلة القادمة . وهو تقدير موقف مبني على فشل روسيا في ايجاد حل سياسي يناسبها ، وفشلها في ايجاد تمويل دولي لاعادة بناء سورية ، ولذلك فإنها ستضغط عليه لتسليم السلطة كحل أخير بعد الانهيار الاقتصادي المتسارع .
لافروف في الخليج :
ويشير أصحاب هذا الرأي وهم من قادة المعارضة ، وبعض المسؤولين العرب ، أن جولة سيرغي لافروف ومحادثاته الاخيرة في الرياض وابوظبي والدوحة تطرقت بوضوح لهذه النقطة ، والتقى لافروف في الدوحة مع نظيريه التركي والقطري على ايجاد منصة ثلاثية للعمل معا للاتفاق على بديل للأسد ، واقناع ايران بالانسحاب العسكري أو إرغامها عليه ، والموافقة على ازاحة الأسد . ونقل عن رياض حجاب الذي كان في جو محادثات الدوحة الثلاثية ، والتقى بالوزير التركي ، وتحدث عبر الجزيرة في نفس اليوم ، أنه تلقى تأكيدات وتطمينات بأن مرحلة الأسد قد انتهت .
ولكن الانتقال كما يقول آخرون من قادة المعارضة السورية ينتظر اتفاقا أمريكيا – روسيا في الأشهر القادمة عندما يستكمل الرئيس بايدن مراجعة أولويات سياسته الخارجية ، وعلى الأخص ما ستسفر عنه الاتصالات الأولية مع ايران .
ولا حظ محللون عسكريون سوريون أن الساحة السورية لم تشهد تصعيدا عسكريا يوازي التصعيد الحاصل بين ايران وأذرعها في اليمن والعراق منذ وصول بايدن للحكم ، وعزوه ذلك الى تفاهم دولي واسع بإطفاء الحرب في سورية ، والعمل على وضع حلول من خلال التفاهمات السياسية والديبلوماسية .
ونقلت المعارضة السورية د . بسمة القضماني عن مسؤولين وخبراء أميركيين التقتهم في واشنطن في بداية الشهر الجاري أن الأميركيين يريدون حلا يشبه سيناريو ( دايتون ) الذي صاغته وفرضته ادارة كلينتون ، وأنهى حرب البلقان عام 1995 . كما نقلت أن الأميركيين لا يدعمون تمزيق سورية ، ولا قيام كيان كردي مستقل ، لأنه محكوم عليه بالفشل نتيجة محاصرته من تركيا وسورية وايران ، ولن تستطيع أميركا حمايته إلا إذا تواجدت دائما على الارض ، وهذا ما لا يمكنها القيام به ابدا . ولذلك يبحث الأكراد بتشجيع اميركي عن مخرج وبعض المكاسب، ثمنا لدورهم العسكري مع اميركا ، عبر سيناريو ( المجلس العسكري ) .
الكلام كثير في هذه المرحلة ، حول هذه المشاريع والسيناريوهات المطروحة ، ولكن لا شيء يؤكدها رسميا ، ولذلك فالانتظار هو السائد . انتظار قرار دولي يوافق عليته الروس والاميركيون أولا ، ثم تقبل به ايران واسرائيل وتركيا ، ودول الخليج العربية ، وتباركه أوروبا أيضا . ويعتقد كثيرون أن هذا الانتظار لن يطول أكثر من ستة شهور على أقصى حد حتى تتضح معالم سياسات ومواقف ادارة واشنطن الجديدة. ويستثمر مناف طلاس هذه الفترة حسب شخصيات قريبة منه في انضاج مبادرة الحوار السوري – السوري، لأن كل شيء برأيه يبدأ من نجاح السوريين في بلورة اتفاق مقبول من الجميع ، ويوحدهم أمام العالم ، ولأنه لا يعقل أن يقبلوا أو ينتظروا فرض الحلول عليهم من الدول الكبرى . ويعتقد حسب ما نقل عنه: إذا كان السوريون موحدين فيما بينهم على حل معقول، ستتغير مواقف الدول الكبرى ايجابيا، وستضطر لاحترام ارادتهم. لذلك فإن تشكيل مجلس عسكري ليكون أداة حفظ أمن البلاد، ومجلس مدني لإدارة العملية الانتقالية هما خطوتان ضروريتان وملحتان في فترة الانتظار الحالية. والله وحده أعلم …!
المصدر: الشراع