ما من مرة زرت بيروت إلا وحاولت مقابلة المفكر العربي البارز الدكتور خير الدين حسيب، فهو أحد أعظم وأنبل ملامح وجه بيروت العربية ومعالمها المشرقة، في ذروة إشعاعها وتألقها الآفل. ولكن محاولاتي في الزيارات السابقة باءت بالفشل، بسبب كثرة أسفاره وغيابه عن بيروت، خصوصا بعد أن تقاعد وتخلى عن مهمته الجليلة على رأس مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية.
وأنا ذاهب للقائه كنت أخشى أن يكون قد نسيني بسبب تقدمه في العمر الذي تجاوز التسعين عاما (90) وانتقل الى العقد العاشر من مسيرته الطويلة الحافلة بالأعمال والانجازات الكبيرة التي تعجز عنها الدول، ولكنه فاجأني بذاكرته الكومبيوترية ووعيه الكامل وحضوره الجذاب، ومتابعته الدقيقة لكل ما يجري في البلدان العربية من العراق الى تونس والمغرب، مرورا بمصر والخليج وفلسطين وسورية. حياني بلطف ومودة وابتسامة لا تفارق محياه الوضاء، وقال لي: آخر مرة التقينا في الخرطوم.. أليس كذلك، قلت أجل أما زلت تذكر!
سألته عن رأيه في أهم القضايا والشؤون العربية. كان بالغ التأثر والحزن، بسبب التطورات المفجعة للأوضاع المأساوية حاليا، ولا سيما في العراق، ولكني وجدته يقرأ التطورات قراءة العالم المتعمق، ويستشرف المستقبل برؤية ورؤيا ثاقبتين، ويرى في المحصلة أن العالم يمر بحالة تغير شاملة وعميقة، وأن العرب في قلب هذه العملية، وستترك آثارها عليهم بقوة، لأنهم أدركوا أن تحالفاتهم السابقة لم تعد توفر لهم الأمن. وأضاف إن العالم يتجه ليكون متعدد الأقطاب فعلا، وأن أميركا لم تعد تتصرف كقوة عظمى، على الرغم من أنها ما زالت القوة الأولى اقتصاديا.
حدثني عن آخر زيارة له الى دمشق عام 2005 حيث تعرض لمحاولة اغتيال. وحدثني عن ملاحقته ومراقبته من قبل أجهزة استخبارات عديدة على مدى سنوات في بيروت وغيرها، وأراني مقالا من اربع صفحات في صحيفة جيروزاليم بوست الاسرائيلية تتحدث كاتبته عنه وتسميه (أبو العروبة) وتقول إنه بإنشائه لمنظمة المؤتمر القومي الاسلامي أفشل خطط اسرائيل في ابقاء الصراع بين التيارين القومي والاسلامي الى الأبد، وتعترف أن اسرائيل استعملت الاسلاميين لمقاتلة المشروع القومي العربي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي!
وتركز جل الحديث على أزمة مركز دراسات الوحدة العربية، أهم وأعظم مؤسسة علمية بحثية في العالم العربي، وقال إن محاصرته وتجفيف موارده كان فعلا مدبرا ومحكما تقف خلفه دول كبرى واقليمية بسبب عدائها المطلق لنشاطه المتفوق والرائد، وتأثيره الذي أحدثه والذي عجزت عن القيام بمثله كل الدول العربية متفرقة ومجتمعة. وروى لي وقائع كثيرة عن كفاحه العنيد لإبقاء المركز قويا يواصل رسالته، ومعه كل المؤسسات العلمية والمنظمات السياسية التي انبثقت عنه، وكان هو شخصيا خلفها كلها، وقال إنه باع بيته في بغداد بمليون ونصف مليون دولار لينفق على المركز، ولم يضع دولارا واحدا منها في جيبه. وقال لي: إنني أعيش منذ سنوات من مرتبي التقاعدي من الأمم المتحدة فقط، ولا شيء سواه!
الجلوس في حضرة د. خير الدين حسيب جلوس في حضرة التاريخ، وعودة الى عصر العمالقة العرب، وعصر الانجازات القومية الطموحة الكبرى.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيركم من طال عمره وحسن عمله، وهذا القول ينطبق على النخلة العراقية الضاربة الجذور خير الدين حسيب، المفكر المبدع الذي وضع أساس نهضة الاقتصاد العراقي الحديث منذ بداية ستينيات القرن الماضي، ونقل الفكر القومي من مرحلة الفكر العاطفي والانشائي الى مرحلة الفكر العلمي الأكاديمي المعاصر.
المصدر: صفحة محمد خليفة/ تاريخ 15 تشرين أول 2019