مثلما هو متوقع، أثار استقبال نصر الحريري قبل أسبوع في كردستان العراق غضبَ نسبة ساحقة من أكراد سوريا، بمن فيهم أنصار المجلس الوطني الكردي الذي تُحتسب أحزابه تقليدياً على المرجعية البارزانية. غني عن القول أن سمعة الائتلاف الذي يرأسه نصر الحريري مرتبطة على نحو خاص لدى الأكراد بمباركة الاجتياح التركي لمنطقة عفرين، وبالصمت على مختلف أصناف الانتهاكات في أماكن سيطرة الفصائل التابعة لأنقرة، بينما تكفي التبعية لأنقرة لوصمه لدى قسم من الجمهور يرى في تركيا العدو الأزلي والأبدي.
لنصر الحريري حساباته من وراء الزيارة، منها ما قد يتعلق بأصوات كتلة المجلس الوطني الكردي في الائتلاف، ومنها ما قد يرتبط بالسياسة التركية التي تنشط على التنافس أو العداء بين البارزانية والأوجلانية. أيضاً لقيادة إقليم كردستان حساباتها، ومن المرجح أنها لم تكن لتستقبله في هذا التوقيت لو كان الحوار الكردي-الكردي في سوريا يسير على ما يرام. الحوار الكردي-الكردي السوري في أحد جوانبه يعكس مجريات الصراع الكردي والكردي-التركي في العراق، والأول منهما صار أكثر بروزاً مع تسلل حزب العمال من شقوق الخلاف بين أربيل والسليمانية، خاصة أن ورثة جلال الطالباني ليس لهم حذاقته في التعامل مع الحزب ولا الكاريزما التي كانت له وشكلت إلى حد ما متراساً أمام تطلعات الحزب الذي تمدد خارج معقله في جبال قنديل.
معلوم أن الحوار الكردي-الكردي أثار استياء الائتلاف، وتخوُّفَ معارضين خارج الائتلاف وخارج هياكل معارضة أخرى. معلوم أيضاً أن الحوار انعقد برعاية أمريكية، بل بضغط من المبعوث الأمريكي الأسبق في عهد ترامب. جدير بالذكر أن قيادة إقليم كردستان حاولت من قبل، في عهد أوباما، التقريبَ بين الطرفين الكرديين السوريين وفشلت مساعيها، ما يعكس على الأرجح فقدان الدعم الأمريكي، وهذا قد يكون الآن حالُ إدارة بايدن غير المكترثة باستئناف الحوار.
كان الحوار الذي انطلق في عهد ترامب يستند إلى الاستقرار المتأخر في سياسة إدارته تجاه سوريا، حيث اتضح آنذاك الوصول إلى تسوية ضمن الإدارة نفسها تنص على البقاء في سوريا بأدنى التكاليف، واستخدام البقاء مع قانون قيصر كوسيلتي ضغط على موسكو وبشار الأسد. أما الضغط الميداني على طهران فتُرك بمعظمه لتل أبيب، بحيث لا تحظى الغارات الإسرائيلية برضا أمريكي فحسب، وإنما بتنسيق استخباراتي ولوجستي عند اللزوم.
للحوار الكردي-الكردي، ضمن تلك السياسة، وظائف عديدة. أولها أن وحدة الصف الكردي مدخل إلى الانفتاح على المكونات الأخرى في المنطقة، العرب على نحو خاص، وقد شهدت الفترة نفسها نشاطاً على صعيد إنشاء هيئات تُعدّ للحوار مع الإدارة الكردية في المرحلة اللاحقة، مع التركيز على خصوصية المنطقة الخاضعة للإدارة الذاتية.
كان من أهداف الحوار أيضاً طمأنة أنقرة، رغم حصولها على منطقتي نفوذ “في عفرين وبين تل أبيض ورأس العين” كافيتين لشرخ سيطرة قسد على الشمال السوري. ما كان يُفترض بأن تحصل عليه أنقرة من ثمار الحوار ابتعادُ الإدارة الذاتية عن حزب العمال الكردستاني، وذلك يقتضي إقصاء مسؤولي الظل في مسد والإدارة الذاتية، وهم من الكوادر التركية لحزب العمال، وبالمثل ابتعاد قسد عن القيادات العسكرية للحزب في جبال قنديل.
في الواقع هناك نسبة متزايدة من أنصار PYD، حزب الاتحاد الديموقراطي الذي يُعتبر امتداداً لحزب العمال، تريد التخلص من هيمنة الشقيق الأكبر، وهذه النسبة منفتحة على الحوار بين الطرفين الكرديين. ومن المتوقع ازدياد عدد الراغبين في فك الارتباط مع حزب العمال، إذا أتى مع ضمانات أمريكية بعدم التخلي عن قسد والإدارة الذاتية متى حان موعد التسوية الكبرى في سوريا. كانت إدارة ترامب، وهذا ما أغضب معارضين سوريين عرب، تراهن على الضغط على موسكو من خلال البقاء في المنطقة ودعم إدارتها بحيث تصبح مكتفية ذاتياً، ما ينذر بوضع طويل الأمد مع العناد الروسي، ويدغدغ في الوقت نفسه تطلعات الأكراد إلى إدارة ذاتية مستدامة.
السياسة الأمريكية، بما فيها جلب دعم اقتصادي من دول خليجية، كانت ترمي إلى تضييق النافذة المفتوحة بين الإدارة الذاتية وسلطة الأسد على خلفية إعادة هيكلة الأولى بموجب مخرجات الحوار الكردي. ولا شك في أن العلاقة بين الطرفين ستتأذى تلقائياً بإخراج كوادر قنديل المتحكمة بالإدارة الذاتية، لأن النافذة الظاهرة للعيان بين الأخيرة والأسد أدنى شأناً من الأنفاق التي تصله أو تصل حليفة الإيراني بجبال قنديل.
في أقل الدلالات، فقد الحوار الكردي قوته الدافعة بسبب انشغال إدارة بايدن عن الملف السوري، ولأنها حتى الآن لم تضع سياسة تخص الشأن السوري ككل. إلا أن عدم اكتراث الإدارة بالموضوع السوري بالتزامن مع جهودها الاستثنائية لاستعادة الاتفاق النووي الإيراني ليس مصادفة بالتأكيد، رأينا ذلك من قبل مع أوباما الذي طالما تعمَّد تسفيه النقاش الخاص بسوريا في مجلس أمنه القومي لصالح هاجسه بإبرام اتفاق مع طهران.
إذا دفنت واشنطن الحوار الكردي ففي هذا مؤشر على سياستها السورية عموماً، من زاوية المسألة الكردية التي يُفترض أن لها اعتباراً خاصاً لدى الحزب الديموقراطي، إذ سيعني إيقاف الحوار استئناف سياسة أوباما التي تستخدم الميليشيات الكردية في حربها ضد داعش، من دون أي أفق آخر سوى وضع القضية السورية كلها كتفصيل في العلاقة مع طهران أو موسكو. بعبارة أخرى، لن يكون هناك توجه أمريكي خاص بأكراد سوريا ما لم تكن هناك سياسة أمريكية خاصة بمجمل القضية السورية. استطراداً، أغلب الظن أنه لن تكون هناك سياسة أمريكية في سوريا ما دامت إدارة بايدن منشغلة باستعادة الاتفاق النووي مع طهران، ولا تريد إغضابها في واحدة من مناطق نفوذها. أسوأ الاحتمالات أن تطول المدة التي يأمل فيها بايدن أن يكون أوباما آخر!
المصدر: المدن