هل انتهت الثورة السورية؟

مهنا الحبيل

كانت الرايات التي تخفق بعلم الثورة السورية، في ذكراها العاشرة، في قلوب شعبها حاشدة المعنى، محتقنة الدمع حيناً، غاضبة المشاعر والأنين، أمام ذلك التاريخ الذي اختطته الثورة، حيث لا يُمكن لأي إنسان، فضلاً عن عربي، أن يتجاهل ذلك المحفل الاستشهادي والنضالي، ومخزون التضحية الذي لم يتكرّر منذ ثورة المليون شهيد في الجزائر. وهناك لوحة مشرقة دوماً في روح العزيمة الضافية التي تجدها بين فرقاء الثورة أو اتجاهاتها، ويا له من وصف قاسٍ حين نقول فرقاء الثورة، فقصة هذه الفرقة هي بوابة الأسى الكبير، ومدخل الألم الوجداني العنيف، وبالذات حين تُستحضرُ مساهمة هذه الفرقة في زيادة المآسي، وفي تغريبة سورية الكبرى. حيث بات الشعب موزعا بين جغرافيا العالم الغربي والوطن العربي الذي لم يقم بحقوق الأخوّة في الغوث، فضلاً عن الدعم، وبين الهجرة المستمرة، على الأقل في حسابات رعاة الصفقة لتصفية الثورة السورية، حيث ستظل كتلة اللجوء الأكبر مضطرّة للبقاء في تركيا، على الرغم من كل الظروف المحيطة والتعصّب العنصري.

أين الجواب في السؤال الأول الذي أهملته الثورة، في بداية عسكرة الميدان، ثم انفجر مجدّداً، في رحلة المعذّبين السوريين في الأرض: من المسؤول عن عدم تأمين اللاجئين قبل ازدحام السلاح وتوظيفه؟ وهو سؤال يُبنى على سؤال آخر: هل كانت جريمة حلفاء الثورة هي الفاعل في تمزيقها ميدانياً وسياسياً، أم أن هشاشة الثورة وخواصرها الليّنة هي ما هيأ لأولئك الحلفاء الأعداء أن يفتتوها، قبل أن يَحسم الإرهاب الروسي والإيراني معركة الميدان؟ فلنفترض اليوم أن الحلفاء هم المسؤولون عن تمزيق الثورة، ما هو دور توجهات الثورة في العهد الجديد للوقاية، وهل بقيَ للثورة ما يجمع شتاتها اليوم؟ على الرغم من كل هذه المآسي ومهرجان المعاناة، يحتفظ الشعب السوري، في الشتات وفي مخيمات اللجوء، بزخم كبير للتمسك بالثورة، على الرغم من الإحباطات منذ عسكرة الثورة، والظن البسيط لقدرة نجاحها في أول عام، ثم ترحيل أمل النصر كل ستة أشهر، حتى أُنهك الناس وصُبّت عليهم عذاباتٌ لا تنقطع، وكأن الشعب يُعاقب مما يسمى المجتمع الدولي، الشريك في ذبحه بالمدية أو البرميل، أو بالسياسة القاتلة التي حبكتها المؤامرة على الثورة.

كل ذلك التوثيق التاريخي لشركاء الجريمة لن يُغيّر شيئاً في المستقبل، فالسؤال هنا: كيف يُصنع ميدان الثورة من جديد، وما هو هذا الميدان، وعلى كثرة الأنشطة قبل وبعد أن هيمن اتفاق سوتشي، على الوضع السياسي للثورة؟ لم أرصد في هذه الأنشطة التمهيد لعمل مؤتمر وطني جامع، تسبقه حلقات نقاش حوارية، فلا يُمكن للثورة أن تعود، من دون فرز الأخطاء وعناصر الفشل والتوظيف. أي أن الثورة، بوصفها تقييما عقليا مطلقا، لا يُمكن أن تقوم على رجليها، وأفكار هدمها الأول وعناصر المسؤولية في اختراقها قائمة، وهو ما يستدعي حواراً صريحاً وتصفية سياسية أخلاقية واقعية، لكل ما ساهم في رسم الهيكل المزعوم الخاطئ الذي من خلاله خُدع شعب الثورة، وقد كان مصير هذا الهيكل أن يُعاد توظيفه وتبريره.

ولست هنا في مقام القيام بدور الجيل الجديد للثورة السورية ولا مناضليها الصادقين، ولا المقاتلين الذين حملوا السلاح للدفاع عن شعبهم، فاستشهد رفاقهم، وكانوا يرجون أن هذا الدفاع مقدّمة لنصر عسكري، لصالح ميلاد حرية مدنية للشعب السوري، ولكن بندقيتهم اختُطفت، إما بنزعها وإضعاف رفاق الثورة المخلصين لله والشعب، أو من خلال جهل هذا المقاتل الذي فتح باب توظيف قاتل خطير، فتحوّل الثغر الذي كان يرجو حمايته إلى ثغرةٍ لإسقاط الثورة. ولكن الرؤية واضحة اليوم، أن الثورة تحتاج كيانا جمعيا وطنيا، لم يستطع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية تحقيقه، ولا يوجد في جلسات الحوار الدولي اليوم ما يمكن أن يُسفر عن ترتيباتٍ نوعيةٍ لصالح شعب الثورة، حتى في ضمانات اللاجئين. فهل انسحاب “الائتلاف” الذي لا يطعن الكاتب هنا في نيات شخصياته، عن حوارات الحلفاء وموسكو والغرب، قد يضّر أكثر بقضية اللاجئين؟ لا أستطيعُ الجزم، لكن الحديث هنا هو عن ضرورة قيام كيانٍ بديل، أو إعادة صياغة هيكل “الائتلاف” بطريقة تضمن قدرة الجماعة الثورية الوطنية، من داخله وخارجه، صناعة مدرج العودة الجديد. وهي عودة صعبة، تحتاجُ إلى شجاعة لإيجاد فكرة حلف الفضول، بين أطياف الشعب السوري، وتياراته العلمانية والإسلامية تعود لتصحيح القاعدة التي انطلق منها الصراع: ما هي العقيدة النضالية والقتالية للثورة السورية، بيت أيديولوجي ديني، أو علماني راديكالي، أم دولة مدنية حرّة؟ تتنافس فيها الأفكار عبر برامجها لتحقيق طموح الشعب، لا الرقص على جراحه باسم الانتصار للأيديولوجية، ومن يوظفها لتياره، لا للشعب.

هذا المفصل الضخم الذي راقبتُ أزمة صراعه في كل علاقتي الممتدة مع القلم لدعم الثورة، ومع كتل متعدّدة وشخصيات من أطياف الثورة، لا يزال يعاني من فراغ مضمون وفراغ إدارة، فالثورة تحتاج، مع تجميع كفاح الشباب الصادق المخلص لها، إلى طاولة حوار تسبق مؤتمراً وطنياً جمعياً. ليس لإيجاد كيان إضافي، وإنما لإقامة خيمة ثابتة العمود قائمة بين أطياف الشعب، تُحدد المستعجل اليوم، في رحلة تأمين ما تبقّى من مصالح شعب الثورة، وتبني دستورَها الجديد وميثاقها، لعمل حاشد مدني سياسي، بعد أن فقدت البندقية أي مساحة استقلال نوعي.

وحتى السلاح، كان ممكنا أن يُحقق بعض التوازن، لو استخدم في دائرة حماية محدّدة، لكنه ضُخّم لصالح الحلفاء، فانقلب إلى مدخل جهنمي على الشعب، بدلاً من حمايته. نعم، لشهداء البندقية الصادقين حقهم، ومن حقهم أن يؤمن أهلوهم بمشروع حرية، تبني لأطفالهم صرح نهضة إنسانيةٍ لا محطة لجوء بين المواسم الحربية. حينها تنضج معالم الثورة من جديد، ليبصر الشعب بوابة الأمل السعيد.

 

المصدر: العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى